«ثقل الظل» لحكيم بلعباس.. معنى السينما مع بلاغة الشهادة
طنجة ـ «سينماتوغراف»: سعيد منتسب
أين هي السينما في فيلم «ثقل الظل» لحكيم بلعباس؟ ذلك سؤال رافق أغلب الذين شاهدوا الفيلم في اليوم الرابع من المهرجان الوطني للفيلم بمدينة طنجة المغربية. أما الجواب، فأتى على لسان المخرج مُرَّا: «لا تبحثوا عن السينما فيما شاهدتم، فأنا مع ما شاهدتموه، لم أعد أعرف معنى السينما، وما معنى المسابقة، وما معنى اللغة السينمائية. كل ذلك يتراجع إلى الخلف، ويصبح بغير معنى مع ما عاشه الأب (علي إيتكو) الذي ما زال يبحث عن ابنه المختطف مجهول المصير حتى الآن، دون أن يحصل على جواب.. وما عاشته الأم والأبناء والأحفاد»..
فيلم «ثقل الظل» شهادة يرويها أب (علي إيتكو) حول عملية اختطاف تعرض لها ابنه (حماد إيتكو) من داخلية إحدى الثانويات في مدينة ورزازات قبل سبعة وثلاثين عاما، حيث بدأت رحلة البحث عن المختطف دون أن تنتهي.. وظل الأب وفيا لتلك الرحلة التي لم تستطع حتى هيئة الإنصاف والمصالحة أن تضع حدا للآلام التي رافقتها، آلام بصيغة الجمع لم تستثن أحدا من العائلة: (الأم، الأب، الإخوان، أبناء العمومة..إلخ).
وإذا كان حكيم بلعباس يعتبر أن أهم ما قدمه في هذا الفيلم هو ابتعاده عن العجرفة، مع المحافظة على ثبات أقدامه فوق الأرض، وأن لا يتوهم أنه «يبدع» و«يخلق» و«يصنع».. لأن عائلة إيتكو تعيش، في مغرب اليوم، وذلك يعني ما هو أقوى من السينما، وما هو أقوى من التخييل، وما هو أقوى من كل فرجة. بل إنه يرى أنه من المفارق والساخر والمضحك أن تعرض شهادة بكل المعاناة التي تمثلها بالنسبة للمختطفين ومجهولي المصير في مهرجان سينمائي بمدينة طنجة، وأن يمر الأب والمرافقين له من البساط الأحمر، وأن يسارع المصورون الصحافيون إلى التقاط الصور معه.
وقال المخرج، إنه يتمنى لو كان بالإمكان أن يبث الفيلم عبر التلفزيون، الذي يتسلل إلى كل بيت، ليدرك الناس ما عاشه ويعيشه مغاربة الهامش، وما مر به المغرب في سنوات الرصاص، وكيف أن ثمن الاختفاء القسري لا يؤديه فقط المختطفون الذين كان النظام يطالب برأسهم، بل أيضا الآباء والأمهات وجميع أفراد العائلة.
ويعترف بلعباس أن من أقوى اللحظات التي عاشها خلال هذا الفيلم هي حين طلب الزوج من زوجته أن تجلب له مرآة ليحلق ذقنه، فأخبرته أنه منذ اختفاء ابنها توقفت عن رؤية وجهها في المرآة. وتساءل: «هل بعد هذا يمكن الحديث عن الإخراج السينمائي واللغة السينمائية والمعالجة الفنية؟». وبالفعل، فإن امتناع الأم عن رؤية وجهها في المرآة يحمل معان كثيرة ساهمت في إنتاج الشحنة العاطفية الضرورية لإنجاح عملية التلقي؛ وللمتلقي أن يتساءل: هل هذا الامتناع يرجع إلى الرغبة في معاقبة الذات حزنا على الابن؟ أم هل هو نوع من النفي الذي يرتد، لاشعوريا، نحو الذات، رغبة في التواطؤ مع الغائب؟ وهل هو نوع من التعاقد مع الذات على التواري إلى الخلف إلى حين عودة هذا الابن؟ أم هل هو إقلاع عن الزينة والتبرج والكحل والسواك.. وكل ما يرتبط بالحياة أو الفرح؟.. إلخ.
وأوضح بلعباس أن هذا الفيلم لا ينأى بعيدا عن الارتباط بأسلوب السيرة الذاتية الذي بدأه مع أشلاء، وأن ثمة هناك دائما في السينما التي يقدمها دافعا إلى الرجوع إلى السيرة الذاتية، معتبرا أن كل شيء في تعامله مع الصورة هو سيرة ذاتيه، وأنه لا يمكن تصوير أي فيلم (أو التقاط أي صورة) دون العودة إلى السير ذاتية.. كل شيء ينطلق من الذات ويعود إليها.
وقال إنه وهو يصور «ثقل الظل» لم يتمكن من إخراج ذلك الخوف الذي ظل يطارد الأب، لأن المختطف يمكنه أن يكون هو صوفيا (ابنة حكيم بلعباس التي تعيش في شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية)، ويمكنه أن يكون هو أنا. «حماد هو صوفيا، وهو أنا، وهو الحسين.. ».
الفيلم، كما هو واضح، سفر في ذاكرة الاختطاف السياسي من زاوية «المعاناة التي عاشتها بعض العائلات بصمت يضاعفه الخوف والهامش”»، وهو دعوة إلى تحقيق المصالحة على أساس الإنصاف، وليس على أساس التعويض المادي، وعلى الصفح على أساس الاعتذار، وليس على أساس إنهاك العائلات وتسويفها والمراهنة على النسيان الذي قد يتحقق بالموت البيولوجي (حالة الأم). وهو شهادة، رغم كل المؤاخذات، استطاعت أن تجثم على الصدور بشكل قوى، وخاصة الشهادة الصامتة التي قدمتها الأم (خيرة) من خلال اللقطات المكبرة لوجهها المتغضن.. والذي يعتبر هو عمق الفيلم، وعمق الشهادة، وعمق اللغة السينمائية التي أراد أن يقدمها لنا حكيم بلعباس بدون ادعاء.