ثمن البراءة كما يصوره ستيفان بريزيه في «حياة»
«فينيسيا» ـ نسرين علام
يقدم المخرج الفرنسي ستيفان بريزيه في الدورة الثالثة والسبعين من مهرجان فينيسيا السينمائي فيلمه الجديد “حياة” الذي يعيدنا إلى بدايات القرن التاسع عشر، حيث تبدأ أحداثه عام 1819. واقتبس الفيلم عن رواية بنفس العنوان للأديب الفرنسي غي دو موباسان. ويتناول حياة جان لو بيرتوي ديه فود، التي تجسد دورها الممثلة جوديت شملا. ويبدأ أحداثه وهي في مقتبل العمر، عندما تعود هذه الشابة البريئة إلى منزل والدها، وهو أحد بارونات نورماندي، بعد أن أتمت دراستها في مدرسة أحد الأديرة، كما جرت العادة آنذاك.
حياة جان وفرصها واختياراتها للمستقبل مرهونة بما يعد مقبولا ولائقا لفتاة من أسرة طيبة في أوائل القرن التاسع عشر. تجيد جان الرسم، وتستمتع في براءة بالحياة الرغدة الجميلة دون أن يكون لديها أي خلفية عن كيفية إدارة أبيها لممتلكاته، فالفواتير والحسابات من شؤون الرجال. ويصور الفيلم لنا بعمق وإنسانية شديدين حياة جان في عذوبة بالغة يعتمد فيها بريزيه على الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة التي تتكامل وتتكثف مكونة صورة نفسية مرهفة لبطلة فيلمه، التي رغم صباها السعيد البريء أو بالأحرى بسبب صباها البريء وعدم اكتسابها لأي مهارات حياتية أو مادية، تتعرض لخيانة زوجها وهجران ابنها وتبدد ثروتها وحياتها.
ويكثف السيناريو المحكم للفيلم، الذي كتبه بريزيه بالاشتراك مع كاتبة السيناريو فلورانس فنيون، رواية دو موباسان الطويلة في فيلم تقارب مدته الساعتين.
وعند انتهاء جان من دراستها في الدير تعود لبيت أبيها المشمس البهيج في نورماندي لتعيش حياتها الشابة في معزل عن كل متاعب الدنيا، حيث تساعد والدها الطيب البارون سيمون جاك (الممثل جون بيير دارويان) في زراعة الورود في الحديقة وتتمشى مع والدتها أدليد (الممثلة يولاند مورو) في نزهات طويلة في الحديقة الغناء المشمسة. البيت يعمه الكثير من البهجة والدفء والضحك والروح الطيبة.
وعندما يأتي جوليان دو لامير (الممثل سوان أرلو) الوسيم لخطبتها، تظن جان أنها وجدت فارس الأحلام وأن حياتها بعد الزواج ستستمر هانئة.
لكن ليلة عرس تأتي لنراها على فراشها تكاد تختنق صامتة كعادتها يبدو الألم على وجهها وتتساقط الدموع على وجهها دون أن يلحظ زوجها ما تشعر به.
جاء بناء الفيلم معتمدا على مشاهد صغيرة ولكنها دالة وكاشفة مثل اختناق جان الصامت ليلة عرسها. مواقف صغيرة ولكنها تشي بكيفية مضي علاقات بأسرها وحياة بأكملها. ونجد أنه بزواجها تنتهي سعادتها البريئة، ويبدأ ألمها الصامت دوما.
ويأتي الشتاء الأول بعد الزواج لتكتشف جان بخل زوجها. كانت هي قد قبلت الزواج منه رغم أنه ليس ميسور الحال رغم لقبه النبيل، لعلمها أن والديها سيساعدانهما بالمال والأرض. تمرض جان وتكاد تصاب بالتهاب رئوي لأن زوجها كان يرفض أن يسمح لها باستهلاك الخشب أو الوقود في التدفئة حرصا منه على المال.
وتكتشف جان أن زوجها متعدد العلاقات النسائية والخيانات، وأنه يقيم علاقة مع خادمتها التي تساويها في العمر والتي كانت صديقتها في الطفولة والصبا.
وتظل وفية للتقاليد وللتنشئة المحافظة، فتُطعن مرات ومرات غدرا، ولكنها تواصل الحياة الزوجية.
لم تعتد جان، ذات التربية المتحفظة والصوت الخفيض، على مواجهة مثل هذه المواقف. لذا، تحاول التعبير عن غضبها وحزنها وألمها بالطريقة التي تعرفها، بأن تبكي وتهيم على وجهها طلبا لبعض السكينة.
تستمر خيانات الزوج إلى أن تكتشف جان خيانة زوجها مع صديقة لها متزوجة. للتنفيس عن الألم، ولفقدانها الحيلة أن تفعل أي شيء آخر، تقرر جان التحدث إلى القس عن الأمر. يصر القس على إبلاغ زوج الصديقة بخيانة زوجته له، فيبادر الزوج المغدور بإطلاق النار على زوجته وعشيقها والانتحار.
هكذا تفقد جان زوجها لتعيش لتربية صغيرها منه، ذلك الصغير الذي يكبر معتمدا على مال أمه التي لا ترفض له طلبا إلى أن تضطر للاقتراض وتبدد ثروتها كاملة.
ويعمد بريزيه خلال الفيلم إلى استخدام التحولات في الفصول والإضاءة والألوان للتعبير عما يعتمل في نفس جان. فنرى الصيف بألوانه الدافئة وشمسه المشرقة عندما تتذكر جان حياتها في بيت أبيها. ونرى الشتاء بسمائه المعتمة وأمطاره للدلالة على قسوة وقتامة حياتها بعد الزواج.
ملابس جان ذات الألوان المبهجة في صباها تزداد قتامتها تدريجيا كلما تكاثرت عليها الهموم إلى أن تصل إلى السواد الحالك. وقسمات وجهها النضرة السعيدة يكسوها الحزن تدريجيا وتتبدل الابتسامة إلى تقطيبة الألم.
ما كان بريزيه ليتمكن من إحداث التأثير المطلوب دون الاعتماد بدرجة كبيرة على جوديت شملا التي تتقمص ببساطة شخصية جان بكل تحولاتها: الصبية السعيدة المقبلة على الحياة، والزوجة المغدورة المحبطة، والأم المحزونة التي ضاع منها الابن والمال.
لا تعتمد شملا على المكياج والمؤثرات لإقناعنا بشخصية جان، ولكنها تعتمد على تعبيرات الوجه والجسد، وعلى نظرة العينين وانكسارها. ثمة تماه وتعاطف وصدق تامين من شملا إزاء شخصية جان، يقابل المتلقي هذا الصدق في الآداء بالاقتناع التام بالدور والأداء وبالفيلم أكمله.
يذكر أن بريزيه قدم في الدورة الثامنة والستين من مهرجان كان السينمائي فيلمه “قانون السوق” (2015)، وحينها فاز فانسان لاندون بجائزة أفضل ممثل في المهرجان عن دوره فيه.