بلاتوهات

جوانب خفية فى حياة أيقونة السينما المصرية «سمراء النيل»

القاهرة ـ «سينماتوغراف»: انتصار دردير

تسابق في حبها فرسان الكلمة وعباقرة التلحين ليهدوا إليها أجمل ما تفيض به شاعريتهم الغامرة نحو جمالها الأخاذ، فخرجت هداياهم جواهر خالدة نقشت بالنور على جبين الأغنية العربية، فنالت في عيد ميلادها أول أغنيتين لعيد الميلاد في تاريخ الغناء الشرقي.. إنها الفنانة مديحة يسرى التي التي يمر اليوم 6 سنوات على رحيلها في 30 مايو 2018.

ولدت «سمراء النيل» في الثالث من ديسمبر عام 1921 لأب مصري من أصول تركية وأم سودانية، وتلقت تعليمها بمدرسة الفنون، وما أتمت العشرين من عمرها حتى لاحت أمامها فرصة العمل بالسينما، فبينما كان المخرج محمد كريم يبحث عن وجه جديد يظهر أمام الموسيقار محمد عبد الوهاب في خامس أفلامه «ممنوع الحب» عام 1942 حتى التقى بها صدفة داخل «جروبي» فعرض عليها الأمر فوافقت على الفور.

وقفت مديحة يسرى أمام الفنان محمد عبد الوهاب باعتباره أول دنجوانات السينما المصرية آنذاك، وكان حضورها لافتاً لدرجة دفعت الموسيقار أن يتغزل في عيونها برائعته «بلاش تبوسني في عينيا» من كلمات الشاعر حسين السيد، فتلك العيون جميلة بما يكفى لتُنشد من أجلها الأغاني، ولا عجب أن أجمل أغنيتين في جمال العيون صارتا من نصيبها، وهما أغنية «دارى العيون داريها..السحر باين فيها»، و«يا جارحة القلب بعيونك.. يصونها المولى ويصونك» وكلتاهما من غناء وألحان زوجها الموسيقار محمد فوزي.

مهد ظهورها الأول أمام موسيقار الأجيال أن يتبناها عميد المسرح العربي يوسف وهبي، فقدمها في مجموعة من أفلامه الواقعية التي تنقل حال مختلف طبقات المجتمع المصري مثل (ابن الحداد، أولادي، والأفوكاتو مديحة)، ومنذ ذلك الحين باتت مديحة يسرى صاحبة أدوار البطولة في أنجح أفلام الأربعينات، حتى صنفتها مجلة «التايمز» ضمن أجمل 10 نساء في العالم خلال تلك الفترة.

وفى ذروة هذه التألق الفني كان زواجها الأول من الفنان والموسيقار محمد أمين، الذي التقت به خلال فيلمها الأول «ممنوع الحب»، وكان أمين من بين أشهر مطربي تلك الحقبة، وهو الذي اختار لها اسمها الفني «مديحة يسرى» وكان اسمها من قبل «هنومة حبيب خليل على»، وأنشأ شركة للإنتاج الفني، انتجت خلال سنوات زواجهما الأربع عددا من الأفلام مثل (أحلام الحب، غرام بدوية، الجنس اللطيف).

بعد طلاقها من أمين خطب ودها دنجوان آخر هو الفنان أحمد سالم المعروف باسم «صائد الحسناوات» فقد ارتبط من قبل بأسمهان وكاميليا وتحية كاريوكا، وكان سالم إلى جانب وسامته فنانا سينمائياً ومنتجاً فنياً وطياراً وإذاعياً صدح صوته للمرة الأولى بـ«هنا القاهرة» عند افتتاح الإذاعة المصرية عام 1934، لتتزوج «السمراء» بـ«الدنجوان»، إلا إن هذا الزواج لم يستمر حيث توفى سالم عام 1949 في ريعان شبابه .

بوفاة سالم تسابق إلى قلب «سمراء النيل» مشاهير آخرون تواترت بذكرهم الأخبار، وفى مقدمة هؤلاء عملاق الأدب العربي عباس العقاد، حتى قيل أنه كتب فيها روايته الوحيدة «سارة» التي كتبها العقاد لتخلد قصة حبه، ومنهم أيضا الشاعر عبد المنعم السباعي، أحد الضباط الأحرار الذي أنشد فيها أغانيه الشهيرة مثل «أنا والعذاب وهواك» و«جميل وأسمر»، غير أن قلب مديحة لم يفتح سوى لموسيقار آخر لا يزال يواصل صعوده الطاغي بأسلوبه السهل الممتنع في التمثيل والغناء إنه الموسيقار محمد فوزي أشهر زيجات «سمراء النيل» على الإطلاق.

كان فوزي قد التقى بها للمرة الأولى خلال كواليس فيلم «قبلة فى لبنان» عام 1945، ليستمر تعاونهما الفني في عدة أفلام لعل أبرزها «بنات حواء»، «نهاية قصة»، و«فاطمة وماريكا وراشيل»، و«معجزة السماء» و«آه من الرجالة»، و«من أين لك هذا»، واستطاع فوزي بأفلامه التي أنتجها وشارك في بطولتها، ووضع ألحانها أن يحدد الخط العاطفي في أفلام مديحة يسرى بدرجة أكبر من زوجيها السابقين محمد أمين وأحمد سالم اللذين شاركاها البطولة في عدة أفلام من قبل .

وكان فوزي يهدى جميع ما أبدع من ألحان في تلك الأعمال لمديحة يسرى، ولعل أبرز تلك الهدايا أغنية «يا نور جديد.. فى يوم سعيد .. ده عيد ميلادك أحلى عيد»، فهذه الأغنية بالذات راهن فوزي على نجاحها لارتباطها ببداياته الفنية، حين غناها لأول مرة أمام مصطفى بك رضا مدير معهد الموسيقى العربية، وحكم عليها بالفشل آنذاك، إلا أن فوزي أصر أن يحول حكم فشله إلى نجاح فى وقت شاهد فيه التألق بأعين مديحة، فوضع تلك الألحان الميلودية لتمتزج مع رقة الكلمات التي صاغها الشاعر عبد العزيز السلام لتنقل كل من يسمعها إلى عالم سماوي تحلق فيه الخيول المجنحة، فكانت أول أغنية لعيد الميلاد في الموسيقى العربية هدية لمديحة يسرى في عيد ميلادها.

وبعد عام واحد من هذه الأغنية، وفى عيد ميلاد مديحة يسرى تلقت هديتها من موسيقار كبير آخر هو الفنان فريد الأطرش حين كانت تشاركه أنجح أفلامه «لحن الخلود»، حيث أهدى لها ثاني أغنيات عيد الميلاد لتكون من نصيبها أيضا، فغنى ولحن أغنيته الشهيرة «يا مالكة القلب في إيدك.. ده عيد الدنيا يوم عيدك» من كلمات الشاعر صالح جودت.

وكان لهذا الفيلم تحديداً شكل جديد في مسيرة فريد الأطرش السينمائية، فبالرغم من أنه ليس العمل الأول التي شاركت فيه مديحة البطولة مع فريد، حيث جمعهم من قبل فيلم «أحلام الشباب» و«شهر العسل»، إلا أن فريد في هذا الفيلم أراد أن يضع خطا بين أفلامه الاستعراضية التي شاركته في بطولته سامية جمال، وبين بداية أفلامه الرومانسية خلال فترتي الخمسينات والستينات، وقد جمع الفيلم بين سيدات السينما العربية بلا منازع وهم (مديحة يسرى وفاتن حمامة وماجدة الصباحي)، لأجل هذا استحقت مديحة هذه الأغنية كهدية في عيد ميلادها، حيث كان فريد يخشى الفشل بعد انفصاله عن سامية جمال.

لم يسلم الحب الكبير بين محمد فوزي ومديحة يسرى من سهام الغيرة، وانهار أمام إعجاب فوزي بكريمة «فاتنة المعادى»، وهو ما اعتبرته خيانة لها، وأصرت على الطلاق عام 1959، إلا أنها احتفظت بعلاقة صداقة تثير الإعجاب مع طليقها، فهو فى نظرها والد نجلها الوحيد عمرو، فكانت دائمة الاتصال به ، وقامت بزيارته أكثر من مرة خلال محنته المالية بعد تأميم مصنع الأسطوانات، وكذا محنته الصحية التي أفضت لوفاته عام 1966.

لم تفكر مديحة يسرى بالزواج مجدداً بعد طلاقها من فوزي إلا بعد عشر سنوات على الأقل، ولكن ارتباطها هذه المرة كان بعيدا كل البعد عن الوسط الفني، حيث تزوجت من الشيخ إبراهيم سلامة الراضي شيخ مشايخ الحامدية الشاذلية، وأعقب ذلك قراراً بارتداء الحجاب واعتزال العمل الفني، وتفرغت للعبادة وفقا لطريقة «الحب الآلهى» إلى جانب تربية نجلها عمرو، وكان زوجها لا يناديها إلا بلقب «الهانم»، ولكن سرعان ما وقع الانفصال حين علمت بعودة الشيخ لزوجته الأولى لتقرر عدم الزواج مرة أخرى.

جسدت مديحة يسرى سائر الأدوار على شاشة السينما، فناقشت القضايا الاجتماعية في أفلام مثل (ابن الحداد، النائب العام، المصري أفندي، أولاد الشوارع)، ودافعت عن قضايا المرأة في أفلام (الأفوكاتو مديحة، تحيا الستات)، وأجادت دور الأم منذ شبابها في فيلم «حياة أو موت» مع عماد حمدي، ثم من بعده في فيلم «الخطايا» مع العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وفيلم «خطيب ماما» أمام نبيلة عبيد وأحمد مظهر، وأمام نبيلة عبيد أيضاً في فيلم «الصبر في الملاحات»، و«الإرهابي» أمام عادل إمام، وغيرها العديد من الأفلام.

عانت الفنانة القديرة مديحة يسرى  من آلام الروماتيزم التي جعلتها طريحة الفراش منذ سنوات، ورغم رحليها في 30 مايو 2018، ستظل سمراء النيل أيقونة للسينما المصرية في أرقى عصورها، ورمزاً من رموز الفن في زمنه الجميل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى