زووم ان

«حمى البحر المتوسط» للمخرجة مها حاج.. حكاية إنسانية تعكس عمق القضية الفلسطينية

كان ـ «سينماتوغراف» : منى حسين  

بفيلمها “حمى البحر المتوسط” اختارت المخرجة الفلسطينية مها حاج أن تكون أكثر قرباً من “آلام وأوجاع” الإنسان الفلسطيني. واستعرضت في عملها السينمائي بـ”نظرة ما” الموازية للمسابقة الرسمية، تفاصيل صغيرة في حياة هذا الإنسان، والتي عادة ما يتم القفز عليها في خضم معاركه الكبرى ضد الاحتلال، دون أن تغفل، طبعاً، القضية الفلسطينية التي حضرت بنفس أكثر عمقاً في حوار شخصيات الفيلم، لأنها مخرجة ترفض “التقريرية والمباشرة” في السينما.

وهكذا تحضر السينما الفلسطينية في مهرجان كان باسم المخرجة مها حاج، التي تعد مشاركتها في هذه التظاهرة الفنية هي الثانية، من خلال فيلمها “حمى البحر المتوسط” القريب جداً من الإنسان الفلسطيني، والذي ابتعدت فيه عن المباشرة في عرض القضية الفلسطينية سينمائياً على الجمهور، وتوخت استحضارها عبر حوار شخصياتها وفي بعض الحالات من خلال أمكنتها.

وهذا الحضور لهموم الإنسان الفلسطيني الحياتية في فيلم حاج، جاء في بعض الأحيان بنوع من السخرية اللاذعة، التي تمرر عبرها رسائل مقاومة، منتزعة في الوقت نفسه ابتسامات من الجمهور، كما حصل في مشهد بطل الفيلم وليد عندما رافق ابنه إلى طبيبة روسية لعلاجه، وكان عليه أن يملأ استمارة لهذا الغرض الطبي، تضمنت أسئلة شخصية جدا.

وورد ضمن الأسئلة المطروحة في الاستمارة المذكورة، “نوعية الديانة”، فكان جواب البطل:”فلسطيني”، ما تبسم له الجمهور، فيما رد بأنه “عربي” لما سألته الطبيبة عن جنسيته. وبهذه الأجوبة، حال البطل المشاهد إلى القصائد “الدرويشية” نسبة للشاعر الفلسطيني محمد درويش، بالنظر لعمقها وبعدها الشاعري المشبع بروح القضية الفلسطينية والعربية.

ورغم أعباء الحياة، يظهر الفيلم أن قضية الوطن هي عقيدة لا تتزعزع عند الشعب الفلسطيني. وسيظل متمسكاً بها مهما اشتدت نارها في ظل وعي جماعي بها يوحد كل الفلسطينيين.

اختارت المخرجة في فيلمها “حمى المتوسط” قصة إنسان فلسطيني له مشاغله الحياتية اليومية كما أي إنسان في العالم، له أحلامه الصغيرة أيضاً تحت سقف قضيته الكبرى التي تجمعه مع بقية إخوانه الفلسطينيين. فهذا الإنسان الفلسطيني، بطل الفيلم وليد، رب عائلة متميز، يرعى طفليه بالشكل اللازم، ويحاول أن يجد له مخرجاً مهنياً في ميدان الكتابة التي يعشقها.

مارس البطل مهنة مصرفي لمدة من الزمن، وجمع القليل من المال، ليتفرغ لمشروعه الإبداعي في كتابة الروايات، فيما تزاول زوجته مهنة التمريض. وكان عليه أثناء غيابها عن البيت أن يقوم بجميع الأشغال المنزلية. لكن كل هذه الظروف لم يكن يعيشها بنفسية متوازنة. أصيب بالاكتئاب وكان عليه متابعة حصص العلاج لدى طبيبة مختصة دون جدوى.

مع مرور الوقت، سيتعرف على جار جديد، يشتركان معاً في نفس الوضع الاجتماعي، أي الزوجة تشتغل فيما يبقى الزوج في البيت. لكن الجار ظل غريباً في عيني البطل، وحاول مراراً أن يفهم علاقاته غير الطبيعية مع أشخاص آخرين، إلا أن هذا لم يمنع من أن تتقوى علاقتهما لحدود بناء صداقة متينة، ستأخذ سياقات مختلفة بل وقاسية فيما بعد.

المخرجة مها حاج مع بطلي فيلمها خلال فعاليات مهرجان كان السينمائي

والفيلم محبوك بطريقة محكمة كقصة إنسانية لرجلين غريبين، يحاول الجمهور على طول العرض أن يفهم شخصيتيهما، يعاني كل منهما من مشاكل نفسية بمستويين مختلفين، دون أعراض ظاهرة عليهما. وإذا كانت المخرجة تطرح متاعب الإنسان الفلسطيني النفسية في الحياة اليومية، فهي لا تحاول أن تبقى في مركز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكنها تلمح إلى أن القضية تبقى حاضرة حتى وإن طغى الهم اليومي على حياة الفلسطينيين.

هي قضية أجيال متعاقبة، بالنسبة للمخرجة، لا يفرط فيها مع توالي السنوات والعقود، هو الألم المغروس في أحشاء هذا الإنسان الفلسطيني مهما كان عمره. وهذا ما يحلينا عليه مشهد نجل بطل الفيلم الذي كان يدعي أنه يشكو من آلام في البطن، يوم الثلاثاء خاصة، وهو يوم موعد حصة الجغرافيا، لكنه في الواقع كان يرفض حضور حصة معلمة تقول إن “القدس هي عاصمة إسرائيل“.

تمضي الأحداث عبر مساحة من السخرية العالية، وكأن مها حاج أرادت أن تحول تلك السخرية نهجاً للتخفيف من حدة الحالة والظروف التى تحاصرها، سخرية عالية في كل شيء يحكمها الموقف والمفارقة لتجاوز منعطف الحالة والظروف الآنية التى تعيشها الشخصية والمجتمع والإنسان الفلسطيني في هذه المرحلة من تاريخه تحت ظل الإحتلال والحلم والأمل الذى يتحول إلى سراب بعيد المنال.

تلك العلاقة بين الكتاب وجاره تقودهما إلى مغامرات وعوالم مشبعة بالمفارقة والمواجهة لأن كل منهما يري في الآخر الخلاص والمنقذ، ولكن مها حاج لا تتوقف عند تلك المحطة لتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حينما يقوم الكاتب باغتيال جاره..

سينما تمتاز بإيقاعها ونبضها الذى صبغته المخرجة بروح ساخرة وسط عالم من الحلم والظروف الموضوعية القاسية التى جعلت جميع الشخوص تعيش ممزقة لاهثه محبطة بلا حلم.. أو أمل ..

فيلم يبدو للوهله الأولي بسيطاً، ولكن عند تفكيك شفرات الشخصيات والمضامين نكتشف بأننا أمام رحلة وعلاقة وإشكاليات اللحظة التى تحاصر تلك الشخصيات التى لا يمكن إلا أن تكون فلسطينية تحت ظل الاحتلال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى