«حوريّات أنشيرين».. تراجيديا الحرب وكوميديا انعكاساتها في النفوس
«سينماتوغراف» ـ يوسف الشايب
تدور أحداث فيلم “حوريّات أنشيرين” (The Banshees Of Inisherin) في جزيرة نائية على الساحل الغربي لإيرلندا، وتحديداً في صيف العام 1923، متتبعاً حكاية الصديقين الحميمين، رغم فارق السن والثقافة: “بادرايك” المزارع ومربي الحيوانات الشاب، و”كولم” الموسيقيّ المسن، والذي بشكل مفاجئ يقرر وضع حدّ للعلاقة هذه، بغية إنهائها، لشعور بالملل واللاجدوى، ما يصيب الأول بصدمة كبيرة، وذهول يدفعانه لمعرفة السبب، وإعادة العلاقة إلى سابق عهدها، بمساعدة من شقيقته الطموحة “سيوبهان”، والشاب الشهير باضطرابه العقلي نسبياً “دومينيك”، وكل من يمكنه المساعدة، إلا أن الأخير يُصمّم على موقفه، دون إبداء الأسباب، حتى أنه يهدد الصديق السابق له، بأن كل محاولة حقيقية لاقتحام حياته مجدداً، ستدفعه لقطع واحد من أصابعه، رغم أن أصابعه هي رأس ماله كموسيقي محلي في الجزيرة وجوارها.
ينافس الفيلم على جائزة أوسكار أفضل فيلم، وأوسكار أفضل مخرج عبر مارتن ماكدونا، وأوسكار أفضل ممثل مُساعد عبر ترشيح برندان غليسون للقائمة القصيرة لهذه الجائزة، وأوسكار أفضل ممثلة مساعدة عبر ترشيح كيري كوندون للقائمة القصيرة عن هذه الفئة، علاوة على ترشيحه لجوائز أوسكار أفضل مونتاج، وأفضل موسيقى أصلية، وأفضل تصوير، وأفضل نص، وهو درامي فنتازي لا يخلو من كوميديا ليست سوداء تماماً، وكان دشّن عروضه في مهرجان “فينيسيا” السينمائي الدولي بدورته التاسعة والسبعين، وتحديداً في الخامس من أيلول الماضي.
يمزج ماكدونا – مؤلف نص الفيلم وليس مخرجه فحسب – بين الفكاهة والدراما ببراعة حائك يعرف كيف يخيط ثوباً يمزج ألواناً تبدو متتابعة لتشكل بتركيبها لوحة فنيّة في نهاية المطاف، فالفيلم لا يتميز بنص عميق ومرهف وحسّاس فحسب، بل هو مؤثر بطريقة مغناطيسية، ساهم في تعزيز تأثيره على المتلقي روح الدعابة الممزوجة بإثارة الشعور بالشفقة، والأداء المدهش للممثلين، علاوة على التصوير البارع، الذي يأخذ إلى زمن مضى، ويكسر أي موجة قد تفكر أن تجلب معها شيئاً من ملل.
ويتنقل الفيلم ببراعة بين كوميديا وتراجيديا، والواقع والخرافة، ما يجعل منه ليس انعكاساً لزمان بعينه، أو جغرافيا على وجه الخصوص، بل سرد بصري يتماهى مع الواقع المُعاش في كثير من جغرافيات العالم، ويبعث في داخل الأجيال الأكبر سناً من المشاهدين ذكريات شخصية يجعلها، ولو لبعض الوقت، تطفو على السطح مجدداً، بعد محاولات طمس عبثية، فيما يجعل من هم أصغر سنّاً يعيشون واقعهم وحيواتهم من خلاله، ما قد يمنحه شيئاً من الخلود، ولو إلى حين.
وعلى رغم من الذكورية الطاغية في الفيلم الذي يمكن تصنيفه أيضاً باعتباره “وجوديّاً”، ومن الأداء الثنائي المذهل لكل من كولين فاريل وبرندان غليسون، فإن أداء الممثلة الإيرلندية كيري كوندون لم يكن عابراً، بل شكل عموداً محورياً في تركيبة الفيلم، وفي تحويل مساراته ومضامينه لجهة تعزيز “الجندر” في بنية الفيلم، فهي الأخت التي قررت في نهاية المطاف أن تملك مصيرها، وتصبح أسيرة ذاتها، وتتخلص من ذلك العذاب الهادئ، الذي يُطهى على نار باردة، كما تطهو الطعام لشقيقها المكلوم بصديقه المسن وأصابعه التي سمّم إحداها حماره الصغير الأكثر قرباً إليه في العالم.
وأظهر الفيلم الحرب الأهلية الإيرلندية في الخلفية، عبر ما ينقل عنها من أنباء، أو من أصوات قذائف بالكاد تُسمع في الجزيرة النائية، وهي الحرب التي رافقت تأسيس الجمهورية الأيرلندية ككيان مستقل عن المملكة المتحدة ضمن الإمبراطورية البريطانية، ودارت رحاها بين المؤيدين والمعارضين للمعاهدة الإنكليزية الإيرلندية (كانون الأول 1921)، وامتدت الحرب من حزيران 1922 إلى أيار 1923، بحيث ربحت قوات الحكومة المؤيدة للمعاهدة الحرب بفضل مساندة غالبية الشعب الإيرلندي، إلا أن الفيلم أظهر تلك الحروب التي تعتمل في دواخل شخصياته وما بينها، بلا مبّرر أحياناً، وكأنها انعكاسات لما تركته تلك الحرب من ذكريات مريرة في النفوس، وربما لا تزال.