مهرجان برلين

«حيوات ماضية» للكورية سيلين سونغ.. قصة حب ثلاثية الأطراف

برلين ـ «سينماتوغراف» : نسرين أحمد

في فيلمها الأول «حيوات ماضية» المشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان برلين السينمائي من 16 إلى 26 فبراير الجاري، تقدم الكاتبة المسرحية والمخرجة الكورية الأمريكية سيلين سونغ فيلما ذرفنا معه الدموع، ومعه ضحكنا، وعدنا إلى الماضي، إلى الحب الأول. ويعد عرضه الأول في مهرجان صاندانس في الولايات المتحدة، حيث حظي الفيلم بإشادات واسعة، يأتي الفيلم إلى برلين، ليحظى بثناء كبير من النقاد وبحب واسع من الجمهور.

يبدأ الفيلم بثلاثة أشخاص يجلسون معا في حانة، رجل وامرأة يتجاذبان الحديث في ود واضح، بينما جلس الرجل الثالث شبه صامت، ويبدو واجما، أو ربما يشعر بالسأم. لا يمكننا سماع ما يقوله الرجل والمرأة، لكن يمكننا سماع تعليق بعض رواد المطعم، الذين أثار المشهد الثلاثي فضولهم، لمعرفة العلاقة التي تجمع الثلاثة. هذا الفضول المحبب لمعرفة تفاصيل هذه العلاقة ومعرفة هؤلاء الثلاثة هو ما يدوم معنا طوال الفيلم.

يقدم هذا المشهد الافتتاحي لفيلم «حيوات ماضية» بداية ذكية تثير اهتمامنا، فنصبح نحن أيضا مثل هؤلاء الناس في الحانة، الذين يريدون معرفة هؤلاء الأشخاص والعلاقة التي تجمعهم، لكن الفيلم لا يقدم مجرد قصة حب ثلاثية الأطراف، بل يأخذنا في رحلة طويلة لفهم العلاقة بين هذين الاثنين الغارقين في الحديث. كما يأخذنا الفيلم في رحلة للبحث في ذواتنا أيضا عن علاقات الحب التي مررنا بها في الماضي، وماذا لو قُدر لها أن تدوم.

إنه فيلم عن الخيارات التي نختارها في الحياة، عن الحب الذي يدوم، رغم انقضاء الأعوام وتغير الأحوال، عن الأقدار والمصائر، إنه فيلم يجعلنا نتساءل ماذا لو بقينا في مسار حياتنا الأول ولم نبدله بمسار جديد، ولماذا نحنّ إلى حياتنا الأولى رغم أننا اخترنا أن نبدلها بالعيش في مكان آخر ومع أشخاص آخرين.

بعد هذا اللقاء الافتتاحي في الحانة، يعود الفيلم بنا نحو ربع قرن، إلى سول في كوريا، حيث تتأهب الصبية نورا، التي كان اسمها آنذاك نا يونغ، مع والديها للهجرة إلى كندا ومنها للولايات المتحدة. هي صبية ذكية يهمها تفوقها الدراسي، نراها حزينة لأنها فقدت مرتبتها الأولى في الصف لصديقها الصدوق هاي سونغ، الذي تعجب به ويعجب بها، رغم إعجابها الفتي بهاي سونغ، إلا أن طموحها الأول هو أن تصبح كاتبة بارزة، وأن تحصل على جائزة نوبل في الأدب. قبل سفرها لكندا، تلتقي نورا مع هاي سونغ في نزهة للوداع، وتحدث والدتها إنها تأمل ذات يوم في الزواج منه، لكنها أيضا تطمح لتحقيق الذات والتفوق الأدبي والدراسي في الولايات المتحدة. تمر الأعوام وينقضي 12 عاما، نرى نا يونغ، التي اختارت لنفسها اسم نورا بعد الهجرة، وقد انتقلت إلى نيويورك لدراسة التأليف المسرحي. يدفع الفضول نورا، التي تلعب دورها باقتدار كبير غريتا لي، أن تبحث في وسائل التواصل الاجتماعي عن حبيب وصديق الصبا هاي سونغ، لتجده هو أيضا يبحث عنها. ويبدأ الاثنان في التواصل عن طريق الإنترنت، وسرعان ما يعود الدفء والحب والعفوية والفهم إلى علاقتهما، التي تتواصل على مدار اليوم.

يصبح هاي سونغ هو الشخص الوحيد، بخلاف والدتها، الذي تتحدث معه نورا بلغتها الكورية، بعد أن صارت الإنكليزية هي اللغة التي تتحدث وتدرس وتكتب بها أعمالها الأدبية. تجد نورا نفسها منجرفة إلى الماضي، إلى كوريا وإلى هاي سونغ، لكنها تريد أن تحيا في الواقع، في نيويورك حيث تود أن تترك بصمتها الأدبية، وأن تصبح كاتبة مسرحية يشار لها بالبنان. وتقرر للمرة الثانية أن تعيش للمستقبل، وأن تبتعد عن حب الصبا.

يمر 12 عاما آخر، حيث تلتقي نورا في محل لإقامة الكتاب والأدباء في مونتوك في نيويورك بكاتب شاب آخر هو آرثر. تتزوج نورا آرثر، لكن صلتها التي ظلت مقطوعة على مدى أعوام بهاي سونغ تتجدد عندما يقرر السفر من كوريا إلى نيويورك في عطلة، الهدف منها أن يلقاها. وحين يتجدد اللقاء، تتجدد كل المشاعر السابقة، ويعود الحنين وتعود الضحكات التي تبدأ خجولة لتتحول إلى ضحكات مليئة بالبهجة. يعود الاثنان إلى حب الصبا كما لو لم يمر 24 عاما، وكما لو لم تتبدل المصائر والبلدان.

تأبى سونغ أن يتحول فيلمها إلى قصة متوقعة عن قصة حب ثلاثية الأطراف، وتأبى أن تحوله إلى مسار الغيرة والهجر والتنافس بين رجلين على حب امرأة. إن ما تريده سونغ لفيلمها هو أن يكون فيلما عن خياراتنا في الحياة، وعن حيواتنا السابقة، وعن التأمل في مصائرنا، وعن بقاء الحب رغم مرور الأعوام.

يتمثل جزء كبير من ذكاء الفيلم ورهافته في عدم إقصائه لآرثر، زوج نورا. يبدو تركيز الفيلم على نورا وحبيب طفولتها وصباها، لكننا نجد أن آرثر هو الأكثر فهما وتفهما لهذه الصداقة وهذا الحب الذي يعود من الماضي. نجد آرثر يعلم أنه رفيق درب نورا في الحاضر، لكن لها تاريخا في بلادها الأم كوريا. يدرك أنه مع حبه لها لا يستطيع أن يقطع صلتها بحياتها الماضية، وبذكرياتها وبلغتها الأصلية، التي ما زال عقلها الباطن يتحدثها، عندما تهمهم كلمات وهي تحلم أثناء نومها. يدرك آرث وندرك نحن أيضا أننا مزيج من حاضرنا وماضينا، وأن حيواتنا السابقة هي ما يشكل وجداننا ووعينا الحالي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى