خيرية البشلاوى تكتب: «يوم للستات».. دعوة للسباحة والإباحة
ـ خيرية البشلاوي
شاءت الصدفة أن أشاهد فيلمي كاملة أبوذكري في يوم واحد وفي فترة زمنية محدودة.. فيلم «واحد ـ صفر» كان معروضاً علي إحدي القنوات التليفزيونية وأنا أستعد لحضور حفل افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي «15 ـ 24 نوفمبر» حيث يعرض فيلمها الروائي الطويل الثاني «يوم للستات».
والمقارنة بين العملين تجعلني أنحاز للتجربة الأولي. فهناك فارق بين التكامل والإحكام الفني وبين «اللجلجة» الفنية أن صح التعبير.. مشكلة «يوم للستات» في النسخة التي عرضها المهرجان تكمن في «السيناريو» في التواصل والإحكام السردي. في المطبات المرتبطة بالحواديت الكثيرة والشخصيات وأزماتها النفسية وتفاصيل سلوك النسوة العاشقات اللاتي يكتمن مشاعرهن ثم ينفجرن للتعبير عنها في مشاهد صعبة التحقيق وفي حارة شعبية لا توجد سدود مادية ولا فعلية تمنع معرفة خبايا ما يمكن اعتباره خارج النسق السلوكي الأخلاقي المعتاد. حتي لو صدقنا إحتمالية ما يجري في السر ومن دون معرفة الجيران..
الموضوع الذي يعالجه الفيلم رغم ما أثرته في المقدمة. آسر فعلاً إذ تصوروا لو قررت وزارة الشباب أن تقيم حماماً للسباحة في حي شعبي قح وتخصص للستات يوماً خالصاًَ لهن!! وتصوروا ردود فعل الرجال. الأزواج والأشقاء والجيران منهم ازاء هذا الحدث الذي من شأنه أن يحدث “طرطشة” كبيرة تصيب الحي بأكمله.. الفكرة رائعة.. والمعالجة معطوبة.
فهذه الفرضية محتملة الحدوث تأتي بردود أفعال شديدة التباين. أنها أشبه «بطوبة» ثقيلة القيتها في بركة راكدة فأحدثت العديد من الدوائر والرذاذ وكشفت عن ما تحت المياه من عفن وأعشاب طفيلية وطحالب و .. إلـخ.
المشاهد التي تتكرر بوعي تؤكد أننا داخل بيئة اجتماعية تسيطر عليها المآذن التي تتقارب بصورة لافتة بينما «الدين» يتمثل في صورة شاب متطرف مهووس جنسياَ ويعاني من الكبت ولا يعرف من «الدين» غير لغة «الحرام» حسب ما تفسره فئة جاهلة متسلطة منحت نفسها حق «تقويم» الناس باسم الدين.
والشخصيات التي ننشغل بحكاياتها.. نساء مهزومات ومنسحقات تحت وطاة الاحباطات العاطفية ووكسة الواقع الاجتماعي وتداعياته التي تصيب «ليلي ـ نيللي كريم» التي يغرق ابنها الصغير وزوجها مع المئات الذين التهمتهم المياه في العبارة المنكوبة التي هرب صاحبها ولم يعد نسمع عنه شيئاً.. يصيب “ليلي” وأمثالها بحزن مقيم.
المياه عند «ليلي» المكلومة تعني إذن الهلاك ولكن المياه عند «عزة» الصبية البريئة الطيبة المتهمة بالبلاهة «ناهد السباعي» تعني «الانطلاق» و«الحرية» والمياه عند «شامية ـ إلهام شاهين» تمثل فرصة للخروج من زنقة الروح وحصار البيئة الظالمة لها بالغوص و«الحمام» في حوض عام يجمع نسوة الحارة في يوم واحد يعني فتح نوافذ أخري لتسريب أثقال الحياة اليومية ومعرفة طعم الحرية.. الوحيدة التي تعرف طعمها هي مدربة السباحة «هالة صدقي» وفي هذا دلالة تدعيم رسالة الفيلم.
هذا الحدث الاستثنائي يفتح «الكتاب» المغلق في حياة العديد من الشخصيات نساء ورجالاً ويهييء المسرح لعرض الأشياء المخبأة في الصدور.
الحزن العميق الذي تغرق فيه «ليلي» صاحبة محل العطور الشعبية في الحارة العتيقة والتي تخفي أسرار حبها القديم لـ«بهجت ـ إياد نصار» مدرب السباحة في مركز الشباب. والذي لايزال علي حبه لها وينفس عنه برسائل «المحمول» الغامضة.
والاحباط المهول لـ«شامية» التي ظلت تعمل «موديلاً» للرسامين تحرم نفسها التواقة للحب والجنس بدوافع ليست مفهومة اللهم إلا رغبتها العارمة للحب القديم “محمود حميدة” والتي تحققت بصورة غريبة في حارة محافظة.
المرأتان «ليلي» و«شامية» تكسران القيود الأولي بذهابها إلي حيث يعيش الحبيب والتواصل معه. والثانية مع الحب الذي هزمها في البداية ثم عاد إلي لملمة جراحها واشباع ظمأها الحسي في النهاية.
حمام السباحة حسب ما فهمت ـ من خارج السيناريو ـ لعب دوره في تحرير الجسد ومن ثم الروح للمرأة أو لنساء الفيلم عموماً.. وهذا التحرر الهابط فجأة يصيب أيضا الرجال الذين منعتهم كوابح الأسرة والتزمت والفهم الأخلاقي الخانق للحرية في مجتمع يعتقد الحرية بمفهومها الإنساني ويدين المرأة يتهمها بالنجاسة لو أنها تعرت. فما بالك بالبطلة الموديل التي وقفت «عريانة ملط» أمام الرسامين وهي في سن الثالثة عشرة وبقيت عذراء رغم ذلك!.
وعلي العكس المفروض والمخطط له من قبل صناع الفيلم تعتبر حكاية «عزة» أو «زوزا» التي لعبتها ناهد السباعي الأكثر جاذبية والأكثر تجسيداً لرسالة الفيلم. وكذلك «إبراهيم» الميكانيكي «أحمد داود» الوحيد الذي استطاع أن «يغطس» داخل جوهرها ويتفهم الجانب الإنساني فيها وتوقها البريء للانطلاق والحرية وهي التي حرمت من أبويها. وعاشت لخدمة جدتها العجوز المريضة. وطارت من فرط السعادة والشعور بالحرية وهي تقبض علي وسط صاحبها بينما ينطلقان معا فوق الموتوسيكل وفي مشهد يذكر ـ مع الفارق ـ بمشهد الشيخ حسني في فيلم «الكيت كات».
الحس الإنساني والحساسية ازاء الطبقات الشعبية صفة كشفت عنها المخرجة كاملة أبوذكري في أول عمل لها أيضا الفهم الحقيقي الذي يتجاوز السطح الخارجي لمشاعر المرأة في حالة الحب.
وبرغم الكوابح ومظاهر التخلف الظاهري تظهر النساء مدافعات عن الوجود وعن حقهن في الحياة وقدرتهن علي هزيمة من يجور علي هذا الحق.
كثيراَ جداً من النساء اللاتي ظهرن في هذا الفيلم من غير النجوم جئن من قلب الحارة. حيث التكوين الجسماني والمظهر والسلوك اليومي. وردود الأفعال التلقائية وحيل الانتقام النسوية.
من أجمل مشاهد الفيلم من حيث التنفيذ والمعني مشهد صب المياه علي أجسام الرجال من الشرفات وكذلك مشهد «حلة المحشي» علي ضفاف حمام السباحة الذي كثيراً ما نراه في «حديقة الحيوانات» وفي احتفالات شم النسيم فالكاتبة هناء عطية والمخرجة كاملة أبوذكري ليستا بعيدتين عن الواقع الاجتماعي. وإن ابتعدتا في مشاهد لقاء البطلات والأبطال في المشاهد “الغرامية” وتصوير هزيمة الرجال بنفس الدرجة أمام تبعات الحرمان العاطفي والحصار المجتمعي.. فالمجتمع بنسائه ورجاله تواق إلي الحرية ويعاني من مفاهيم عنها تدمر المعني الحقيقي لها!.
يحسب لإلهام شاهين انحيازها للسينما من حيث كونها صناعة ترفيهية قوامها «النساء» حسب ما أثبتت تجرب «كاملة» في عملها الأول ثم الثاني واختيارها للعناصر المبدعة في هذه الصناعة ومنها مديرة التصوير نانسي عبدالفتاح والمؤلفتان مريم نعوم وهناء عطية “خلطة فوزية”.
«يوم للستات» يفجر لحظات من المرح وكثير من الضحك ويضم مشاهد لافتة جداً في عنصر التصوير والتكوينات البصرية أذكر بصفة خاصة مشهد «ليلي» الحزينة وهي تتأمل المياه وتغرق في التفكير حتي يتراءي لها صورة ابنها الغريق الذي تركته وحضرت إلي مصر بسبب «الأشياء» التي جاءت بها من رحلتها المنكوبة إلي إحدي دول الخليج.
كثير من المعاني توحي بها الأحداث وتستدعيها حكايات الأبطال.. «بهحت ـ إياد نصار» و«أحمد ـ محمود حميدة» و«أحمد الفيشاوي» الذي يمثل الجهل والتطرف المتدثر بعباءة الدين.. وحكاية الشباب الصغير العاجز عن تفجير طاقاته علي نحو إيجابي وخلاق.
من العناصر المتقدمة في صناعة الترفيه ومنها «الفيلم» عنصر الموسيقي كمكون عنصري في نسيج حبكة الفيلم وأداة تعبير تكرس المشاعر التي تولدها المواقف الدرامية والتي تنفرد أحيانا بوظيفة التعبير عن المشاعر في جياشانها بفعل الحب أو الحزن أو الرفض.. إلـخ. وتامر كروان يعتبر واحداً من هؤلاء المبدعين وأعماله تشهد بذلك.
الشريط الصوتي هنا يعتمد علي خلفية الأصوات الواقعية الصادرة من وسط الزحام البشري أو الاشتباكات العضلية. أو من أصوات النسوة أو من مصادر للأغنية العاطفية فنحن أمام تجربة كان من الممكن أن تكون غنية فعلاً لولاً مطبات السيناريو والمبالغات في شحنات الوجع والاحباط والانكسارات العاطفية.