خيرية البشلاوي تكتب: «الأصليين» سينما جديدة غير مألوفة
ـ خيرية البشلاوي
فيلم “الأصليين” يشحن الرغبة في التفكير. يستفز الدماغ. يطرح أسئلة. يفتح الشهية لتفسيرات وتأويلات وخواطر حول وابل الأفكار الظاهرة والخفية التي يطولها السيناريو في خباثه وبخفة أحيانا وسخرية لاذعة تتواري وراء أسلوب الأداء. أداء خالد الصاوي بصفة خاصة. وكلها عوامل لا تعجب كثيرين من دافعي التذكرة من اعتادوا الجلوس والتسليم وتوجيه البصر صوب الشاشة.
هؤلاء يفاجأون بأنهم أمام عمل يستدعي عقولهم لتحقيق المتعة الذهنية وبصيرتهم لفهم معني أول تعليق صوتي تقريري يصل إلي آذانهم من خارج الشاشة يقول: “كل كائن حي تم استئناسه حتي لو كان بني آدم” يسمي “داجن” أي يصبح مثل “الدجاجة” أو بالبلدي الدارج أليف “لا بيهش ولا ينش”.
في نفس الوقت نتابع “سمير عليوة” “ماجد الكدواني” داخل سوبر ماركت مهول يضاهي عصر الاستهلاك و”الشوبنج” “السفيه” وتظهر ثلاجة الفراخ المجمدة الضخمة المرصوصة و”التروللي” الذي يدفعه “سمير” أمامه محملاً باحتياجاته الأسرية. عيش وفراخ ولانشون بالزيتون وبقسماط بالسمسم .. وإلـخ ومكالمة أخيرة لزوجته قبل أن يغادر المكان إذا ما كانت ترغب في أي إضافة..!! وأمام ماكينة الحساب تخرج فاتورة طويلة تشير إلي مبلغ كبير بالضرورة.
و”سمير عليوة” يعمل مدير لقسم الائتمان في بنك كبير. زوجته “ماهي” “كندة علوش” مسرفة لحوحة. بدينة نوعاً. وهو كما نري زوجاً وأباً مسالماً وأن كان يخفي حلماً أو ربما خيالاً يراوده أحياناً بأن يصبح “مغني” حيث يمسك بميكروفون فيما يشبه برنامج “لمواهب المستقبل” تقدمه شخصية أقرب إلي المهرج أو البهلون وقد يفزعه صوت الزوجة المفاجيء ويخرجه عن حلمه وهي تعرض عليه صورها المسجلة علي التليفون والتي تشير إلي قدرتها علي انقاص وزنها. وتذكره بميعاد عملية “التدبيس” التي صارت إلي جانب جنون “الشوبنج” موضة وسبوبة لأطباء التجميل في عصرنا بنزعاته وتقاليده المصطنعة.
فجأة ومن دون مقدمات وبهدوء ونعومة في وعورة الأظافر المسنونة يخبره رئيسه في البنك بوجود موظفة جديدة حسناء وعلي درجة من الكفاءة سوف تحل محله. أي أنه أصبح “خارج الخدمة” وله في ذمة البنك مكافأة مادية وهدية صغيرة سيأخذها بعد أن يوقع علي “استمارة 6″”!!”
“أديني عقلك؟!”.. فماذا يفعل سمير المسكين المطالب بأجر طبيب ومصاريف مدرسة واشتراك نادي وطلبات السوبر ماركت وثمن “البيتزا” اليومية والجرائد القديمة المهمة التي يحفظها في مكتبته الخاصة باعتبارها جزءاً من “تاريخ الوطن”؟
هو إذن مغرم بالتاريخ وبالميراث الفني الثقافي! ماذا يعمل وقد تم “رفته” بشياكة قاتلة وسحب رصيده لسداد قسط الشاليه الذي فرضته زوجته وقد صار مفلساً؟!
أصبح “سمير” “داجناً” تماما لا حول له ولا قوة.. وهنا يتدخل مندوب “الأصليين” “رشدي أباظة” “خالد الصاوي” يترك له أمام عتبة باب شقته تليفون “آي فون” وحين يفتحه يقرأ “ضع بصمتك” ثم بصوت مغلف ثقيل يأتيه صوت “رشدي” يحدد له ميعاداً وعرضاً مغرياً وقبل ذلك نسمع مكالمة من شركة “زون فون” “Zonehone” تعرض عليه الاشتراك وشراء جهاز مراقبة يضمن له الأمن والأمان لسيارته وشقته.. إلـخ.
ويفاجأ بأن مندوبة الشركة تعرف تفاصيل بطاقته الشخصية إلي جانب تفاصيل عن حياته ونلاحظ أن هذه الشركة نفسها سيأتي ذكرها لاحقاً حين يعرض عليه مندوب “الأصليين” صفقة العمر هكذا بسرعة وخفة وسلاسة وتقييم فني مناسب لحياة أسرة متوسطة ميسورة تعيش في “كومباوند” “أحد مظاهر الحياة الحديثة” نتعرف علي “سمير” وزوجته وبيته ومكتبته الصغيرة المهمشة والتي تعتبرها الزوجة عبئاً مادياً ومقراً للفئران بعد أن يموت صاحبها “!!”
إنه البطل الأول في ألبوم “الأصليين” موظف بنك. ابن أسرة متوسطة تعيش في مصر الجديدة الحي الأنيق لهذه الطبقة وهو نفسه خريج مدرسة “الجزويت” وكان بطلاً لكرة “البنج بونج”.. والده كان موظف بنك كبير وأمه سيدة “هناء الشوربجي” من سيدات هذه الطبقة التي كانت ومازالت تعتز بقيمها وتري في ولدها امتداداً لابيه دون النظر إلي الاختلاف “الدراماتيكي” الذي جري علي أرض الواقع وعلي الأرض و”الوطن”.
التشطيب اللوكس
مخرج الفيلم مروان حامد من جيل المخرجين الشباب ممن اطلق عليهم “التشطيب اللوكس” وأعني الجيل الذي “قشط” كريمة الجيل السابق “الآباء” وحظي بالتعليم الجيد. واللغة الأجنبية ومعرفة التطورات التي جرت علي لغة السينما بصرياً وتكنولوجيا وإمكانيات هذه اللغة غير المحدودة في ترجمة الخيال العلمي والذي لم يعد خيالاً. فضلاً عن سبر أغوار الطبقات المتداخلة للأفكار في عصر المعلومات والأفق غير المحدودة للأفكار التي اقتربت منها وعالجتها تجارب سينمائية مركبة ومعقدة ومخيفة ومذهلة مثل أفلام “تروفان شو” و”السيشن” استزراع الأفكار والدخول إلي حيث ترقد عوالم العقل الباطن.
وعلي نفس “التون” ودرجة السرعة واللون ومدي الغرابة وحجم المعرفة المعقدة بوسائط التعبير والتواصل والتداخل وامتلاك القدرة علي الهيمنة علي العقول في معارك القصف الذهني وتشكيل البنية العقلية والمزاج الحاكم للأجيال الجديدة يقف الروائي أحمد مراد مؤلف سيناريو هذا الفيلم ومصمم حواراته بذائقة وحساسية جيله.
فريق العمل كله ينتمي إلي تيار سينما جديدة ليست مألوفة بعد ولم يعتدها كثيرون من عشاق الترفيه الاستهلاكي الحركي الصاخب هنا في مصر.
أجزاء من الأصليين تذكرك بتجارب الخيال العلمي. ولكنها تكرس فكرة انه لم يعد خيالاً. وأماكن التصوير المختارة تشيع بالتشكيل والإضاءة والألوان إحساساً بالغموض والفضول ثم تدخل الموسيقي في أجزاء بعينها لتعميق مشاعر الدهشة وتضيف إلي حجم علامة الاستفهام بينما تتابع حواراً يجمع بين سمير ورشدي أباظة “خالد الصاوي”.
ثمة نزعة عدوانية من الأخير مبطنة بالترغيب والترهيب. ونغمة صوت ومخارج للألفاظ تصنع الشحنات من التوحس ووجه الكدواني مساحة افتراضية لتعبيرات متداخلة ليست مريحة في جوهرها.. أضف إلي ذلك مفاجآت “صوتية” تثير الضحك والخوف معاً عندما يدق رشدي أباظة علي المائدة فجأة أثناء حواره مع سمير أو عندما ينفجر محمد ممدوح بعد فاصل من الأداء العميق الساخر في مضمونه وبمقدمات لا توحي أبداً بهذا الانفجار من القهقهات بما تحمله من إيحاءات.. هذا الصعود والهبوط والاسترخاء والتوتر. والعدوانية المبطنة بلون المزاج الحاكم لروح الفيلم ككل وعناصر الخلق الفني بأكمله.
مفيش حد ما بيتراقبش
صناع هذا العمل استوعبوا “الشخصية” الفريدة وغير المألوفة للفيلم ككل والتي تدفع بالسينما المصرية إلي مرحلة التكنولوجيا شديدة الذكاء.. وعصر المعرفة والمعلومات بالغة الأهمية في المجتمع الشمولي المستأنس والذي يتم ترويض الفرد فيه وتكييفه وضبط إيقاع حركته بما يخدم دور “الأصليين” حراس الوطن وروحه ويدعم وظيفة الأجهزة الذكية في هذا الصدد.. ودور “البصمة” لفتح خزائن الأسرار.
التصوير والموسيقي والديكور يدعمون هذه الشخصية. رسم الشخصيات وإداراتها في مزيج يجمع ما بين الواقعية والخيال.. الأسرة التي يجمعها مكان واحد “حجرة المعيشة” بينما يعيش كل واحد عالمه تماماً ومع “جهازه” الذكي صورة الابن والابنة والزوجة في “ألبوم” الأسرة الخاص في عصر “الرقابة” الزوجة رقيبة ومراقبة. الأم بدورها رقيبة للابن منذ طفولته بائع البيتزا. فالكل مراقب حسب منطق الفيلم. بينما يضفي المخرج علي بعض المواقف من خلال تناوله سمة “أسطورية” علي مشهد ماسح الأحذية والنادل في المطعم. والحديقة أو الجزيرة وحكاية “النداهة”.
حكاية “مندوب الأرض الطاهرة” وحراس الأرض الأصليين الذين يظهرون عندما تختل الأنظمة وتغرق البلد. في إشارة ليست مباشرة إلي الأجهزة الأمنية التي تظهر لكي تعدل الكفة.
ولكن الرقابة تبدأ مع فجر البشرية بالرقيب الأعلي جل شأنه. و”الشيطان” الذي يشير اليه السيناريو باعتباره أول “خلية نائمة”.. والحكايات تتوالي عبر علاقة سمير برشدي. وتتداعي الأفكار مع رموز من التاريخ السحيق وحكايات الأبناء ومن خلال الحكايات الحديثة من التراث الفني وفيها اسم رشدي أباظة نفسه الممثل الوسيم الذي استعاره المؤلف بإيحاءات في عقله. وعين حورس وعيون بهية وسقوط الأوهام حول حضارات تداعت “الحضارة الفرعونية” وشخصيات ألبسها المؤلف أثواباً غير ثوبها تدحض الأسطورة مثل شخصية “بهية” العاشقة التي هربت مع ياسين المجرم الخارج علي القانون والتي ادعت أنه خطفها واغتصبها.
“بهية” إذن ليست بالبهاء الذي يتصوره الوجدان الجمعي من خلال الشعراء والغناء. ومؤلفها الشاعر معارض إبان السبعينيات الذي أخضعته الرقابة العميقة لحراس الأرض للاضطهاد وذاق مرارة الظلم وأدخلته مصحة للأمراض العقلية “!!”.
وعيون بهية خيال و”بهية” نفسها مثل نداهة جزيرة البحر الأعظم.. حكاوي ليلي وعشقها “لرامي” وخيانة “رامي” لها إلـخ ونولوجاتها الكثيرة التي خلقت حالة من التلكؤ في إيقاع الفيلم وكسرت التماسك السردي لحين.
لقد تمرد سمير عليوة علي قانون “الرقابة” وحاول كسر القواعد الذي تحفظه. طلق زوجته وذهب للقاء “ليلي” وأقام قرية سياحية صغيرة وألقي بالتليفون الذكي وسط الرمال وحاول ان يتحرر.. فهل هذا ممكن؟
المؤلف والمخرج يؤكدان ان هذا مستحيل “رشدي أباظة” مندوب الأصليين وراءه حتي آخر نفس وكله لمصلحة الوطن.. إنها فلسفة الدولة الشمولية التي باتت مفروضة عملياً وقدرياً علي الأرض وفي السماء “!!”.. فالشاشات التي نراقب من خلالها نراها مثلما ترانا وحجرة الرقابة الغريبة بديكورها وإضاءتها وألوانها وموظفيها باقية والعقاب جاهز لمن يخرج علي القانون.
“الأصليين” مكسب يضاف للإنتاج السينمائي وتأكيد لتيار متطور بدأ يظهر ويربي جمهوراً غير المعتاد والمستقبل له لأنه انعكاس لما سوف يأتي.