خيرية البشلاوي تكتب: «سينما باراديزو» وفيلم «بلاش تبوسني»
ـ خيرية البشلاوي
أعادني فيلم “بلاش تبوسني” التجربة الإخراجية الأولي لمخرجه ومؤلفه أحمد عامر إلي فيلم إيطالي بديع من انتاج 1988 كان هو أيضاً التجربة الأولي لمخرجه ومؤلفه “جوسيبي تورنا تورر” بعنوان “سينما باراديزو”.
وبطبيعة الحال لا توجد مقارنة بين فيلم حاصل علي الأوسكار كأحسن فيلم أجنبي “1989” ويحقق نجاحاً نقدياً عالمياً وجماهيرياً كبيراً وبين فيلم محدود القيمة ومنقول من فيلم آخر علي الأقل بالنسبة للفكرة الرئيسية التي يقوم عليها.
الفيلم الإيطالي يعتبر احتفاءً مدهشاً بفن السينما وتأثيره علي الشباب وفي نفس الوقت يتضمن تسجيلاً لمرحلة من التاريخ الاجتماعي للبلد التي تدور فيه الأحداث. بينما الفيلم المصري يقتصر علي تأثير “البوسة” ويندب علي ضياعها من الأفلام المصرية في السنوات الأخيرة.
المخرج المصري اقتبس جزءاً مهماً من فكرة الفيلم الإيطالي ومن بنائه وبالذات في الجزء التسجيلي الذي يستعرض مشاهد القبلات في تاريخ الفيلم.
تجمع بعضها في شريط واحد وعرضه أمام جمهور الفيلم.
ولا نقارنه بين المناخ والاحساس الذي يشيعه كل فيلم علي حده وسط جمهوره وبين عمل اختاره النقاد عام 2010 كواحد من أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما.
تدور الأحداث في “سينما باراديزو” بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي قرية إيطالية في جزيرة صقلية والعنوان يشير إلي اسم دار العرض الوحيدة في هذه القرية والتي كانت تمثل منفذاً للتنفيس عن الأهالي بعد كرب الحرب وأجوائها الكئيبة.. و”بطل الفيلم سالفادور” صبي ذكي ولماح وعاشق للسينما. وهو أيضاً يتيم ويعيش مع أمه الأرملة بعد أن فقدت زوجها في الحرب.
والفيلم يتابع طفولة صبا وشباب هذه الشخصية إلي أن انتقلت إلي العاصمة روما لدراسة الاخراج السينمائي. ولكن وبعد 30 سنة يعود إليها لحضور جنازة “الفريدو” الرجل الذي كان بمثابة والده والذي لازمه داخل دار العرض حيث كان يمضي وقته باعتباره العامل المسئول عن تشغيل الأفلام داخل كابينة العرض في دار “سينما باراديزو”.
وبعد هذا الغياب الطويل عن القرية تتصل الأم تليفونيا بابنها الذي أصبح مخرجاً مشهوراً في روما لكي تخبره بوفاة “الفريدو” وحين لم تجده تطلب من صديقته التي تعيش معه ضرورة إخباره بموعد الجنازة. وبعد أن يعود “سلفادور” تسأله الصديقة “من هو” الفريدو؟
ويفجر السؤال شحنة من الحنين وشحنات من الذكريات تحمله إلي ماضيه وإلي العلاقة الأبوية الحميمة التي ربطته بهذا الرجل الذي جعله يعشق السينما وعلمه كيف يدير جهاز التشغيل وطلب منه أن يترك القرية ويذهب إلي روما ولا ينظر إلي الوراء حتي يبني مستقبله.
ومن خلال هذه العودة إلي الوراء “فلاش باك” نكتشف من خلال “دار العرض” هذه أو “سينما باراديزو” تاريخ القرية نفسها والتغييرات الرهيبة التي طرأت عليها والأحداث التي شكلت ذاكرة الناس ومنها تعرض “السينما” للاحتراق وإصابة “الفريدو” بالعمي. وكيف تطوع الأهالي لبناء الدار من جديد ولكنها في النهاية تعرضت للإزالة لكي يحل محلها مجمع تجاري “مول”.. الفيلم أيضاً ينظر إلي تغيير العلاقات الإنسانية واختلافها وشبابها في القرية والمدينة.
وتشكل العلاقة بين الصبي الصغير وبينه في مراحل الصبا والشباب وبين “الفريدو” العمود الفقري في بناء الفيلم والدور الذي كانت تلعبه السينما في حياة الناس. والأهم دور الرقابة الدينية ونفوذ “قسيس” القرية الذي كان يصر علي قطع مشاهد القبلات والعلاقة الحميمة بين بطلي الفيلم في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي..
كان “سلفادور” يراقب هذه المشاهد باندهاش وبهجة مفرطة وكان “الفريدو” يجمعها بعد أن يغطي الأجزاء المقطوعة أرض “الكابينة”.
وبعد حضور جنازة الرجل الذي لعب الدور الأقوي في حياته يجلس “سلفادور” لمشاهدة الهدية التي تركها له “الفريدو” وكانت المفاجأة أنها “بكرة” تضم كل الأجزاء التي حذفتها الرقابة الدينية. أي المشاهد الرومانسية التي تضم القبلات والعناق بين بطلي الفيلم. وبإمكانيات المخرج وتمرسه يعيد “سلفادور” ترتيبها في شريط واحد متجانس يعكس ركام المشاعر والأحاسيس العاطفية التي جمعت بين أبطال السينما في قصص رائعة وجذابة وبينما يشاهدها تقفز الدموع إلي عين سلفادور لتشكل ستاراً علي الماضي وعلي نهاية العلاقة بهذه المرحلة من حياته.
هذا الشريط التسجيلي لمشاهد القبلات في فيلم “بلاش تبوسني” ليس مجرد توارد خواطر وانما تطويع كالعادة لنفس الفكرة وللإيحاء بدور “الرقابة” بدافع الدين ومن دون النظر إلي الاختلاف البين في المحتوي الكلي للعملية وللسياق الاجتماعي والتاريخي لظروف الانتاج في الحالتين ناهيك عن التفاصيل التي تجعل العمل الإيطالي بمثابة “وثيقة” مرئية لحالة قرية في زمن الحرب وموقف رجل الدين والنزعات المحافظة من الفن والسينما بصفة خاصة.