«دفاتر مايا».. ذكريات أرواح تبحث عن زمن مفقود
«سينماتوغراف» ـ محمد صبحي
يأتي الفيلم الجديد للثنائي جوانا حاجي توما وخليل جُريج، “دفاتر مايا“، إنسانياً وعاطفياً من دون أن يفقد بوصلة فنية واضحة وإصراراً على استثمار الوسيط الفيلمي والمصوّر لخلق بانوراما مكثّفة تصل الماضي بالمستقبل، في امتدادٍ وثيق الصلة بنهجه الفني وأسلوبه المجدّد. الحرب والحب منطلقه، يأتي بماضيهما إلى قلب حاضرٍ ساكن، مطلقاً عقال أسئلة رابضة وذكريات مخبّأة. فيلم ذكي وحسّاس عن الذاكرة وإرثها لا يخشى إثارة المشاعر الكبيرة، والأهم أنه لا يفعل ذلك باجترار مجاني للنوستالجيا أو السباحة السهلة في قراءات تبسيطية وساذجة.
يراهن “دفاتر مايا” على بنية كلاسيكية، مع بعض اللمسات الشخصية، لسرد قصته حول فتاة مراهقة تحاول التعرّف على ماضي والدتها من خلال التحقيق في حياتها إبان مراهقتها. موضوع مألوف وعالمي إلى حدّ كبير، يعطيه الثنائي اللبناني خصوصيته الضرورية باعتماد سيناريو وسرد تقليديين تُضاف إليهما تفاصيل غير معتادة في هذا النوع من قصص النضوج.
يبدأ الفيلم من مونتريال، كندا، عشية بداية عامٍ جديد. أليكس (بالوما فوتييه) مراهقة تعيش مع والدتها مايا (ريم تركي)، المنفصلة عن والدها الذي ذهب للعيش في فرنسا. تقضي الفتاة معظم وقتها في الدردشة وإرسال مقاطع الفيديو إلى أصدقائها عبر الشبكات الاجتماعية. أثناء تجهيزها لاحتفالات عيد الميلاد مع جدتها الأرملة (كليمانس صباغ)، يصل صندوق ضخم الى المنزل. الصندوق مُرسل إلى الأم، والجدّة لا تريد لابنتها أن تراه، فتقرر إخفاءه. لكن، بالمصادفة، تعثر عليه مايا، ويهتزّ كيان البيت الوادع، وتقرّر الجدة ترك منزل ابنتها عائدة إلى بيتها في المدينة نفسها. صمت الأم، وذعر الجدّة يثير فضول الابنة، الحفيدة. نساء من ثلاثة أجيال، ثلاث طرق للتعامل مع الماضي. فضول وقمع وحنين.
الصندوق محتشد بدفاتر وتذكارات وأفلام وصور وشرائط كاسيت من سنوات مراهقة مايا البيروتية (تقوم بدورها منال عيسى)، أرسلته عائلة صديقتها المقربة وقتذاك، ليزا، والتي وافتها المنية مؤخراً في فرنسا، حيث هاجرت وأهلها بعد اشتداد وطأة الحرب الأهلية. تُصدم مايا بالخبر المفجع، ويأخذها التأثر أيضاً بلُقيتها القادمة من الماضي، وتقرر حفظ كل شيء بعيداً.
ما في داخل الصندوق هو الفيلم، مجازياً وفعلياً، ولا يبدأ الفيلم انطلاقته الفعلية إلا حين فتحه. في الصندوق، تسكن حياة مايا، ماضيها، ماضي الحرب والحبّ، ذلك الجزء الذي لا تعرفه أليكس عن حياة أمّها. في الثمانينيات، تبادل مايا وليزا الرسائل يومياً، من باريس إلى بيروت، والعكس. ليس فقط الحروف والكلمات، بل كل أنواع الأشياء التي يمكّن تخيُّل قوّتها التعبيرية والتوصيلية في ذلك الوقت. بدافع الفضول والافتتان، تتبع أليكس ترتيب الدفاتر والأشرطة – كلها مكتوبة ومسجلة في الثمانينيات بجماليات ذلك الوقت – وتبدأ اكتشاف أن والدتها، المرأة الصموتة والخاملة، عاشت حياة قاسية في بيروت في تلك السنوات. تخبرها مايا في الرسائل والصور والتسجيلات التي أرسلتها إلى صديقتها عن عشقها الأول وحياتها اليومية والمشاكل والصعوبات التي بدأت تظهر مع صراعات الحرب. دفاتر الملاحظات مليئة أيضاً بأشياء من المحتمل أن تخصًّص لها اليوم تطبيقات إلكترونية: مخططات يومية لمزاج مايا، لائحة الأغاني المفضلة، يوميات فيلمية.
تسرق أليكس الصندوق، تصوّر محتوياته، تقرأ رسائل والدتها حين كانت في مثل سنّها، حتى إنها تتشاركها مع أصدقائها عبر “ماسنجر”. بعد ذلك، تستحوذ الدردشات على الشاشة، وبقدر ما أضحى المتفرج على دراية كافية بهذه الطريقة السينمائية حالياً، بفضل عدد متزايد من الأفلام والمسلسلات، لكنها هنا أكثر من مجرد حيلة، لأن الفيلم يشبه الصندوق، ويغدو مزيجاً من مواد ووسائط. يعتمد الفيلم في مواده الخام، المتنوعة والوفيرة، على ذكريات ومقتنيات شخصية لجوانا حاجي توما، وإضافات أخرى كثيرة، من دون أن يعني ذلك رواية سيرتها أو سيرة حياة محدّدة، وهذا واحد من مكامن جماله وقوّته. فهو بالنسبة لمايا، فيلم عن المنفى، عن الأرواح المتروكة في قلب جحيم أهلي واستعادتها من جديد خارج مكانها الأول، عن الذاكرة والوسائط التي نستخدمها لمساعدتنا على طول الطريق. وبالنسبة لأليكس، هو فيلم عن مدى صعوبة تخيُّل حياة الوالدين في مثل عُمرنا. وهذا الأخير هو ما يحرّك الفتاة، التي تغوص في ماضي أمّها مثل سلسلة تلفزيونية تتابعها بشغفٍ ونهم.
وهو فيلم حرب أيضاً، لكنه مختلف كثيراً بتوليفه بين متناقضات زمانية ومكانية ومزاجية، يراوح بينها ويمزجها، بوسائط مختلفة وتكنيكات مفارقة، لاستكشاف التاريخ الشخصي وإخبار رواية أكبر عن زمنٍ مفقود في عمر بلد مضطرب. لم يكن في لبنان الثمانينيات حرب فقط، بل حُبّ أيضاً. رجاء الجميل (حسن عقيل)، الذي أحبته مايا، كان ميليشياوياً يسارياً بطريقة مثّلت مشكلة لعائلتها، فيما والدها، محايد من دعاة السلام ومعارضة تصعيد الصراع. لا ينحاز الفيلم لأي طرف أو فريق، وبدلاً من الإسهاب في توضيح محدّدات الصراع (لا يأتي أبداً على ذكر إسرائيل أو منظمة التحرير أو أي ميليشيا لبنانية)، يستثمر الفيلم طاقاته وأدواته في التركيز على إمكانية تصالح المرء مع تاريخه، بمعالجة صدمات الماضي وصراعات الأجيال فيما يتبنّى قيمة الحفاظ على ذلك الماضي للأجيال الآتية.
في واحد من أجمل مشاهد الفيلم، يعود مايا ورجاء من حفلة موسيقية صاخبة، يخوضان ليل بيروت على دراجة نارية. القنابل تتساقط على المدينة، محدثة دماراً يحيق بالعاشقين الشابّين، لكن لا خوف عليهما. لا صورة واقعية، ولا ذاكرة ملموسة، بل هروب من الموت إلى الحياة. تستحوذ الحرب على الذاكرة نفسها، ولا تزال تلوّن كل صورة، لكنها تصبح، حين إشباع هذه الصورة بالحُبّ؛ لعبة نارية رومانسية في سماء الليل. وهكذا يبالغ الفيلم في تضخيم الذاكرة الملموسة لتوضيح عمل الذاكرة نفسها: كيف تكثّف الأشياء، وكيف تخضع لمحفّزات إطلاقها.
في ذلك كله، “دفاتر مايا” فيلم جميل وملهم ومدهش، لا يرهق نفسه ولا متفرجه رغم قسوة حكايته، بل يتنفّس ويبتسم في كل لحظاته. يستفيد من طبيعته الروائية ليوثّق ويروي قصصاً، هنا والآن وغداً. يتكئ على بناء تقليدي ليتمّمه بطرق مبتكرة وفعّالة وذكية. يرمي أوراقاً ثم يعود ليجمع الخطوط معاً، نحو وصال شخصي وأهلى، لمّ شمل يحتاجه لبنان الآن أكثر من أي وقت مضى.