«دمشق حلب» بعيداً عن الحرب قريباً من الأمل
«سينماتوغراف» ـ انتصار دردير
فرضت أهوال الحرب في سوريا نفسها على صناع الأفلام بها ووجدوا فيها مجالاً لتوثيق جرائمها، واختلطت حكايات البشر فيها لتعبر عنها في أفلام روائية، وباتت مشاهد المعارك والدمار قاسماً مشتركاً في السينما السورية ترجمة لواقع يعيشه المجتمع السوري، لكن فيلم «دمشق حلب» للمخرج باسل الخطيب وبطولة النجم السوري الكبير دريد لحام يحاول أن يبتعد عنها رغم اقترابه واقترانه بها، فمن ذا الذي يستطيع أن يتجاهل ما افسدته هذه الحرب في نفوس البشر، وما أهدرته من قيم إنسانية وما تركته من مشاهد الدمار والدماء التي سالت.
لا يتجاهل الفيلم كل ذلك، إلا أنه يحاول أن يقفز عليها باعثاً برسالة في غاية الأهمية، مؤكداً أن الحياة لابد أن تستمر، وأن هذا الوقت سوف يمضي كما تقول الحكمة الهندية.
بخبرته الكبيرة وحضوره الواثق يبدو بطل الفيلم الفنان العربي الفنان دريد لحام كمن يحاول أن يداوي جراح الجميع، ويزرع الأمل بينهم رغم مرارة الواقع، ففي ظل قلقه علي ابنته المقيمة وطفليها في حلب واختفاء زوجها منذ ثلاث سنوات في ظروف غامضة، فإنه ينشغل أيضاً بابنة صديقه الراحل ويرتب لزواجها ويدعو اصدقائه للاحتفال بها وفاء لوالدها، وبينما تسود الجميع مشاعر الفرح بحذر وقلق يقع حادث إرهابي يتسبب في تدمير المكان ويفقد عيسي أصدقائه والعروس الشابة، ويوصلهم إلي المقابر وهو يؤكد في مشهد مؤثر أن أصدقائه هنا بالمقابر أكثر من أصدقائه بالخارج.
السيناريو والحوار الذي كتبه المخرج باسل الخطيب تمت كتابته خصيصاً لدريد، ولم يكن هناك ممثل أخر يستطيع أن يؤديه، فمن يملك هذه الكايزما وقوة التأثير الجماهيري ليخاطب الممثلين وهو في الواقع يخاطب شعباً بأكمله يريده أن ينفض عن كاهله غبار الحرب، ويؤكد أننا لن نتجاوزها سوي بتسامحنا مع أنفسنا ومع الآخرين، ونظراً لكونه مذيعاً سابقاً فإنه ينتقد توجه الإعلام إلي تفاهات الأمور حين يستمع إلي برنامج يبثه الراديو ويستفزه المذيع بأحاديثه التافهة، وفي الحافلة التي تقله إلي حلب يلتقي مصادفة ذات المذيع ومع الوقت يقترب كل منهما للآخر ويتبدل موقف عيسي منه لكيلا نتسرع في الحكم علي الآخرين.
جاء الحوار محملاً برسائل بعضها بشكل مباشر، كاشفاً عن وجهة نظر صناعه مثلما يقول عيسى (ما خرب بيتنا إلا الربيع)، رامياً إلى ثورات الربيع العربي التي يراها سبباً في كل ما شهدته المنطقة العربية وسوريا علي وجه الخصوص.
وجاءت كل مشاهد النصف الأول من الفيلم تمهيداً لرحلة البطل الأساسية من دمشق إلي حلب لزيارة ابنته، وتتقاطع الأحداث مع ما تعيشه حلب المدينة السورية التي تعرضت لدمار كبير، وتعيش دينا ابنة عيسى في فزع وعزلة مع طفليها، وتسعي للخروج لشراء متطلباتها في صراع البقاء فيخبرها الضابط من مغبة عبور الشارع الذي تم زرعه بالألغام وأنهم يتطلعون لمجيء فرقة روسية لتمشيط المنطقة.
ومن خلال مشهد تكرر كثيراً في السينما السورية بعد الحرب يعمل الضابط علي مساعدتها بإرسال الخبز عن طريق أحبال تصل إلي شرفتها لإطعام طفليها.
قبل بدء الرحلة يستعرض المخرج ركاب الحافلة كاشفاً شيئاً فشيئا عن أزمات متباينة يواجهها كل منهم، وقد دمرت الحرب كثيراً في نفوسهم حتى لو لم يعترفوا بذلك.
وبينما تشق الحافلة طريقها إلي حلب بعدما تم تحريرها من الإرهابيين تتعرض لعطل داخل منطقة ريفية لم تطالها الحرب، حيث المزارع والمسطحات الخضراء التي توحي بالأمل بعيداً عن البنايات المنهارة والنفوس المحطمة، وتخلق فترة انتظار حافلة أخري مزيداً من التقارب وكأنهم باتوا عائلة واحدة، ويتكرر مشهد الفرح في الفيلم لكن هذه المرة بتكاتف الجميع لزواج عروسي الحافلة، ومع الوصول إلي حلب يقترب الأمل.
يعول المخرج كثيراً على مشهد النهاية الذي يتم تنفيذه بأفضل ما يكون أداءً وتكنيكاً، فبينما تهبط الابنة مسرعة ويهرع الأب لاحتضان ابنته، يحذره الضابط من نهاية محتومة لو تجاوز خطوة واحدة لكنه يصر على قطع المسافة حتى لو دفع حياته ثمناً لذلك، وتتابع الكاميرا خطواته المرتجفة وعيون ابنته المترقبة في مشهد يحبس أنفاس الجميع حتى يجتاز الخطر ويحتضنها طويلاً، ونجح المخرج في حبس أنفاس المتفرج خلال هذا المشهد، وانحاز بهذه النهاية إلى الأمل باحتضان الأب لابنته وتجاوزه الألغام التي حالت دون لقاءهما.
يمثل فيلم «دمشق حلب» لقاء تأخر طويلاً بين المخرج باسل الخطيب والنجم الكبير دريد لحام، وقدما معاً عملاً جدير بالمشاهدة فقد جمع بين الأداء الجيد والأغاني المختارة والموسيقي التي تعلن عن وجودها في مشاهد مهمة لحظات الخطر والألم والفرح.