«ديكور» .. متلازمة الحلم والاختيار
«سينماتوغراف» ـ رشا حسني
من أهم جماليات العمل الفني علي إختلاف أشكاله من لوحة فن تشكيلي إلي قطعة موسيقي أو أغنية إلي قصيدة شعر وصولاً إلي العمل السينمائي أو الفيلم السينمائي هو استمرار تأثيره بعد إنتهاء سماعه أو رؤيته وهو ما حدث مع فيلم “ديكور” التجربة الإخراجية الرابعة وشديدة التميز والاختلاف للمخرج أحمد عبد الله السيد، هذا المخرج الذي يحمل بين جنبات عقله ووجدانه مشروعاً سينمائياً مختلفاً ومغايراً عما هو مطروح علي الساحة السينمائية المصرية.
ومن تجربة إلي أخري تتضح معالم ذلك المشروع وتتبلور إلي أن ارتكز ذلك المشروع علي ركيزة هامة وداعمة لمشوار المخرج أحمد عبد الله ألا وهي قيامه بإخراج فيلم “ديكور” وإخراجه فقط من دون القيام بكتابته كسابق تجاربه.
بدون شك أن انفتاح أحمد عبد الله علي أساليب كتابية وسردية أخري قد أثري عمله الفني الأخير”ديكور” خاصة وضوح واتفاق رؤاه ومنهج مشروعه مع ما كتبته شيرين دياب في أولي تجاربها لكتابة السيناريو للسينما وشقيقها المؤلف والمخرج محمد دياب.
الفكرة:
تدور أحداث الفيلم ببساطة حول ثلاث شخصيات مها مهندسة الديكور (حورية فرغلي)، شريف مهندس الديكور (خالد ابو النجا)، ومصطفي (ماجد الكدواني). تتقابل مها مع شريف في عالم ومع مصطفي في عالم أخر وتظل ما بين هذا وذاك (الشخص والعالم) حتي تقرر وتختار كيف تريد أن تعيش وما هي أهم خياراتها في الحياة، لينتهي الفيلم بمفارقة بمثابة المفاجأة التي قد تبهج البعض في حين لا يتفق معها البعض.
الاتساق بين الفكرة والسرد:
من أهم العوامل المميزة لفيلم “ديكور” اتساق العديد من العناصر الفنية للفيلم مع موضوعه وفكرته. ومن أهم تلك العناصر الفنية وأولها إختيار المخرج أحمد عبد الله للأبيض والأسود ضافياً مساحات رمادية علي الصورة والتي انعكست بدورها علي ما وراء الصورة سواء علي الشاشة من خلال الفيلم أو علي حيواتنا نحن كمشاهدين. فكلنا يمتلك من المساحات الرمادية في حياته الكثير منها ما نعيه ومنها ما يتحكم بنا وباختياراتنا ولا نعيه. فبخلاف أن هذا إختيار إخراجي بحت وللمخرج كامل الحق في هذا الاختيار إلا انه وعلي المستوي الفني كان الإختيار الأمثل لطرح رؤية المخرج لعمله من حيث تلك الظلال التي يُلقيها الماضي علي حياة مها بطلة الفيلم وعلاقتها بمن حولها سواء ماضيها الشخصي أو الماضي الفني والتي اختارت مها أن تحيا بين جنباته وتقضي به ومعه كثيراً من أوقاتها، مع حُسن إستغلال وتوظيف الأفلام الأبيض والأسود القديمة وخاصة بعض أفلام سيدة الشاشة العربية “فاتن حمامة” خاصة فيلمي “الليلة الأخيرة” و”أيامنا الحلوة”.
نقاط التماس والبعد:
يتماس فيلم “ديكور” فيما يطرحه من معاني وأفكار مع كثير مما يمر به الإنسان خاصة في واقعنا المصري أو العربي حيث تكاد تختفي بينهما الفروقات. فالفيلم فيلم إنساني وليس فيلماً نسوياً فهو لا يتحدث عن مها بطلته فقط بل يتحدث من خلال تناوله لقصة مها عن أفكار تشغل بال كثيرين للحد الذي يصل بها في بعض الأوقات مع بعض الأشخاص إلي حد خلق حياة موازية لحياته. ومن ضمن جماليات الفيلم أيضاً عدم تحيزه لحياة على حساب أخري بحيث أن مها تعاني في كلتا الحياتين. فهي ليست سعيدة بحياة فيهما حيث يسُهل إختيارها وتفضيلها عن الأخرى وبالتالي تنتهي مأساتها ولكن ما يُعظم المأساة هو التخبط في أي الحياتين أفضل فبكل منهما ما يجذبها لها وما ينفرها منها وهذا يقودنا إلي معني آخر الإختيار أو بمعني أدق مأساة الإختيار.
مها ككثيرين أحيطت بالعديد من الخيارات المفروضة والتي لا تحمل لها مساحة ولو صغيرة للاختيار وحتى مع تلك الخيارات التي اختارتها بمحض وكامل إرادتها لتشعرها بالسعادة ما هي إلا سعادة وقتية لتجد نفسها بعد ذلك أمام مأساة الإختيار. ففي إحدي الحياتين اللتين تحياهما مها اختارت شريف “خالد أبو النجا” كزوج عصري فهو شاب وسيم ناجح يشاركها نفس مهنتها وشغفها ولكن يقنعها بتغيير بعض قناعاتها المهنية كالتنازل عن قيمة العمل الفني وخوض تجربة العمل في أفلام السينما التجارية والتي لا تحمل أي قيمة فنية و هو ما يعتبر سبباً مباشراً لتلك الحالة التي أصابتها بالإضافة إلا أنه يرفض رفضاً تامأ لفكرة إنجاب الأطفال وهي الأمنية التي اختزنتها مها في عقلها الباطن لتطلقها في حياتها الموازية مع مصطفي “ماجد الكدواني”.
تعتبر الأحلام أو التخيلات للكثير سبلاً للحياة والعيش وللتأقلم مع ما نعيشه، ومن خلال “ديكور” قد يقرر المشاهد أي من الخيارين سيختار هل نهاية مها التي أودت بها إلي مصحة نفسية لتلقي المساعدة أم سيختار وقفة مع النفس للوقوف علي ماهية حياته واختياراته وإلي ما ستوصله وهل ما إذا كان بيديه التقرير والاختيار وهل يمتلك الشجاعة لاتخاذ قرار الاختيار وتغير شكل حياته في مستقبل لا يراه ولكنه يتمناه.
تعليقات علي السيناريو:
اجتاز سيناريو كل من شيرين ومحمد دياب ورطة من أكبر ورطات كتابة السيناريو في بعض الأحيان في حين استغرقا فيها في أحيان أخري ألا وهي ورطة المباشرة ففي بعض المشاهد التي تعتبر أفضل مشاهد الفيلم تمكن المشاهد من استخلاص ما وراء المشهد وليس ما يقوله أو يتناوله المشهد ليتخلل ذلك إلي نفسه ويصل به لانعكاس حي ولا واع علي ما يعانيه المشاهد نفسه وليس بالضرورة أن يكون هو ما تعانيه مها بطلة الفيلم أو شريف أو حتي مصطفي ولكن ما يراه أمامه علي الشاشة قد خلق له مساحة جدل داخلي وحوار نفسي وعقلي قابل للتطبيق علي حياته الشخصية وما تحمله من اختيارات وقناعات والأهم رغبات.
ومن ضمن المشاهد التي أخفق السيناريو في اجتياز عقبة المباشرة فيها ذلك المشهد الذي تقف فيه مها أما شاشة التلفزيون لتشاهد جزءا من رقصة صافيناز “زلزال” مع تعبيرات وجه حورية فرغلي التي توحي بالاشمئزاز مما تري اعتمادا علي مفارقة مشاركة حورية فرغلي نفسها بالتمثيل في هذا الفيلم، في حين كان الاعتماد علي مفارقة وجود المخرج إبراهيم البطوط وقيامه بدور مخرج يتخلى عن قناعاته الفنية وقيامه بإخراج فيلم تجاري قوي جداً مُضيفاً بعداً أخر للسيناريو.
المأساة والملهاة:
فيلم “ديكور” من الأفلام التي من الممكن مشاهدتها عدة مرات كي يستطيع المشاهد اكتشاف شيئ جديد عند كل مشاهدة للفيلم، فمن أكثر الأشياء التي لم تكن مفاجئة ولكنها كانت مُحزنة هي ضحك الجمهور في أكثر مشاهد الفيلم مأساوية وتعبيراً عن مدي معاناة مها النفسية كمشهد تكرار وجودها بين مصطفي وشريف ولكن في المرة التي يكون فيها شريف هو الزوج ومصطفي هو من تعتقد مها بأنه الزوج، قد توحي المشاهدة الأولي بأنه مشهد كوميدي ولكن قطعاً سيتغير تقبل المشاهد لنفس المشهد.
الأداء التمثيلي:
ماجد الكدواني:
تعدت تجربة الفنان ماجد الكدواني مرحلة الإشادة بأدائه التمثيلي في هذا الدور أو في أدوار سابقة أو حتي تالية له، فقد وصل الكدواني لمرحلة متقدمة من إتقان فن الداء التمثيلي لا يصل إليها كثير ممن يُطلق عليهم نجوم الشباك فأصبح ماجد يعبر عما وراء النص فيعبر سلوكياً عما هو غير منطوق من أفكار أو مشاعر، وأتقن استدعاء الشخصية التي يتناولها من الداخل إلي الخارج بكل تفاصيلها والتي في كثير من الأحيان لا يلاحظها المشاهد العادي ولكنه بدون شك يتأثر بها لا شعورياً.
في مشهد تكرار موقف مها مرة أخري للوقوف بين مصطفي وشريف ولكن تلك المرة شريف هو الزوج ولكن مها تعتقد أن مصطفي هو الزوج، عبر ماجد الكدواني من خلال نظرة عابرة لم تطل علي الشاشة مدة الدقيقة تعبيراً تمثيلياً اقتنص به تصفيق الكثير ممن شاهدوا الفيلم.
حورية فرغلي:
قدمت في دور مها أفضل ما قدمته من أداء تمثيلي منذ عملها بمهنة التمثيل فلقد أتاحت مساحات الدور العريضة وما تحمله بعض مشاهد الفيلم والذي لا يتفق بالضرورة مع ما تعرضه تلك المشاهد إظهار إمكانات تمثيلية دقيقة الفهم من حورية خاصة تحت قيادة مخرج واع كلياً بطبيعة النص الذي يقدمه.
خالد أبو النجا:
ظل أداء أبو النجا علي وتيرة واحدة حتي قرب نهاية الفيلم بداية من المشهد الذي نهر فيه مها لإخفائها الحمل عنه والذي استمر لمدة أربعة أشهر حيث بدأت تتبلور شخصية شريف كالمشهد الذي يذهب فيه معها إلي البار ويظل يرقبها من بعيد والذي استطاع من خلاله بأقل تعبيرات ممكنة التعبير عن بداية تحول مسار شخصية شريف. ثم المشهد الذي يعود فيه للمنزل ليجد مها علي شفا الانهيار ليحتضنها ويتيقن من أنها في أزمة حقيقية تستوجب العلاج لا التعايش ومجرد الراحة وصولاً الى أن يقنع مها من خلاله بأنه علي استعداد لان يتحمل أي شئ من أجلها ومن أجل أن تعود متوازنة. ولعل هذه المشاهد هي التي نفت عن شخصية أبو النجا صفة الأحادية.
مشهد النهاية:
من أكثر الفيلم مباشرة وعدم وجوده لم يكن لينتقص من جمال الفيلم في شئ ولكن وجوده قد أفقد الفيلم كثيراً من سحره ففي بعض الأحيان تأخذ تلك النهايات التي تحمل نوعا من المفارقة أو المفاجأة من الفيلم ولا تعطيه وهو ما حدث بالضبط مع “ديكور”، فقد انتقصت نهايته خاصة اللقطة الملونة ما ظل الفيلم يكرسه بداخل المشاهدين منذ البداية باللونين الأبيض والأسود وتلك الحالة المتأملة، فحتي وان كانت النهاية أذعنت بأنها لعبة أو مفارقة إلا أنها كانت صادمة ليست لتأثيرها أكثر من خبول ما ظل الفيلم يحمله من قيم ومعاني، فنهاية الفيلم عند مشهد إقرار كل من شريف ومصطفي بحق مها وحريتها في اختيار نمط حياتها وان كان لا علاقة له بهما ومشهد إسدالها الستار عليهما وهي في شرفة غرفتها كان سيظل تأثيره أوقع من تلك النهاية “المباشرة” التي أرادت فقط أن تعلن لنا أنا كانت لعبة وأن ما نحياه من واقع به من القبح ما يدفعنا للهرب منه.