أحداث و تقارير

ذاكرة السينما: «ماما ميا».. العطش إلى الأفلام الموسيقية

 ـ أسامة عسل

السينما هي الفن والمتعة.. وعندما يأتي عملاً ليهدي العالم رؤية جديدة في الخلق والإبداع الفني، كأنه جاء ليروي عطش الظامئين إلي التفتح والنشوة والقوة لمواصلة الحياة في صحراء الحروب والأزمات والاختناقات.

من هذا النوع.. جاء الفيلم الساحر «ماما ميا» عام 2008، والذي حرك مشاعرناً للحنان والحب، ودفعنا للشوق إلي من يخفف عنا حدة الأيام وطول المسافات، وكأننا قطارات تسير علي قضبان، نلهث ونتصارع ونتوجع، دون أن نتوقف علي محطات للراحة والتقاط الأنفاس.. ودون أن تلتقي الخطوط!.

حالة اشتياق، نمر بها جميعا، وننتظر ما قد تلقي به الأقدار في طريقنا، عل وعسي يجعل تلك الخطوط تتلاقي.

ومن هذا الاعتقاد تدور أحداث فيلم «ماما ميا» الذي يعتمد علي المقطوعات الموسيقية الشهيرة لفرقة «أبا» والتي تعبر في صياغتها عن فكرة محورية في الفيلم مفادها أن البشر لا يعرفون أبداً ما يخبئه لهم القدر، وبمجرد اكتشافهم لمصيرهم تأتي ردود أفعالهم أكثر إدهاشا من غرابة القدر نفسه.

«ماما ميا» أمتعنا بأوقات من السحر، حيث يزدهر حب جديد، لتلتهب رومانسيات قديمة على هذه الجزيرة التي تغطيها الأعشاب والتوقعات، إنها قصة تستند على سحرِ رواية أغاني فريق أبا «دانسينغ كوين» و «أس. أو. أس» إلى «ماني، ماني، ماني» و«تايك إي شنس أون مي»، أو بمعنى أدق هو احتفال بين الأمهات وبناتهن، أصدقاء قدامى وعائلة جديدة علي وشك أن تتكون.

يتناول فيلم «ماما ميا» قصة دونا، أم وحيدة تلتقي مرة أخرى مع ثلاثة أشخاص يفترض أن أحدهم هو الأب الحقيقي لابنتها وهم: كولين فيرث، وبيرث بروسنان، وستالين سكارسغارد، ويأتي هذا اللقاء يوم زفاف ابنتها.

ويتحتم على دونا مواجهة هذه المشكلة، في هذه المرحلة الحاسمة من حياتها، وبعد أن نجحت في تحقيق جميع أحلامها، وتمكنت من إقامة مشروعها الذي كانت تتمناه، وهو تشييد فندق خاص في إحدى الجزر اليونانية، وبقدر ما كانت الرحلة شاقة ومرهقة بقدر ما تشعر به من سعادة، إلا أن هذه السعادة لم تكتمل لأنها لا تزال تفتقد لرجل أحلامها ليشاركها هذه اللحظة.

الاستعراضات تضفي علي الفيلم رونقاً خاصاً رغم بساطتها، والموسيقى تلعب دوراً محورياً في الربط بين الأحداث، فتقذف بالمشاعر علي معظم اللقطات، وأغاني فريق الأبا الممتعة والخالدة تمثل عبر المواقف المختلفة النقلة من مرحلة إلى أخرى ومن جيل لجيل من أبطال العمل، لتعكس حالة رائعة من التفاؤل، تنتقل من جيل الأم إلى جيل الابنة وخطيبها، ويلعب دوريهما دومينيك كوبر وأماندا سايفيلد التي تجتهد هوليوود لتجعل منها نجمة أميركا المقبلة.

يسجل الفيلم ردود الأفعال خلال هذه المواقف على أنغام مقطوعات موسيقية مثل (تشيكيتا) أو الطفلة الصغيرة.. و(نقود نقود).. أو (الفائز يحصل على كل شيء)، لتصور مشاعر الخطأ والتسامح والغفران، كقيم إنسانية لا غنى عنها.

وكما تعبر هذه الأغنيات القديمة عن الفرص الضائعة، ولكنها تؤكد في الوقت نفسه أن هناك فرصاً أخرى قد تسنح ولا يجب إضاعتها، وفقا لنجمة «أفلام الشيطان يرتدي برادا» و«كرامر ضد كرامر» و«منزل الأرواح» و«صائد الغزلان»، و«اختيار صوفي»، و«المرأة الحديدية»، و«إنه معقد»، حيث تلعب المخضرمة ميريل ستريب دور الأم «دونا» وهو يتماشى بصورة كبيرة مع أسلوبها وأفكارها، وقد سعت من خلاله للحصول على شيء أكثر مما حصلت عليه من تقدير وجوائز، فهو سيبقي في ذاكرة جمهورها وأرشيف تاريخها السينمائي، عملاً متميزاً يمس القلب، ويشفي غليل الانتظار لفيلم يحرك المشاعر، بعيداً عن دم الشاشة وأفكار العنف التي تجاوزت العقول.

ورغم أنها بلغت ما يقارب السبعين من عمرها، إلا أن نجمة السينما الأميركية ميريل ستريب، لا زالت تمثل أسطورة حقيقية في عالم الفن السابع، يتجاوز إنجازها الفني أقصى ما يمكن أن يحلم به ممثل على الإطلاق.

المدهش في فيلم «ماما ميا» هو إيقاعه السريع، ومشاهده المليئة بالسحر والجمال، وأداء الممثلين الذين تهاوي أمام تعبيراتهم أقنعة وجوههم الجامدة، ليبدو الإنسان علي حقيقته العذبة التي أخفاها طويلا وراء قناع الصرامة، كما كانت الموسيقي التصويرية والتي امتزجت بأغاني فريق أبا، كومضات تم ترجمتها من خلال لوحات سينمائية تداخلت فيها الأضواء والظلال، بالمشاعر المحسوسة والمنطوقة، واعتمدت المخرجة علي تبسيط الديكور وتحديد الأماكن، ليتحول كل كادر إلي لوحة فنية مستغلة درجات اللون في الملابس وانعكاسات الضوء، وطبيعة اليونان الخلابة ولون مياه البحر، وحركة المجاميع وأدائهم الراقص الذي بدا عفويا ليضفي إبهاراً علي الصورة.

من الصعب أن نقول الحقيقة في كل وقت، فالحقيقة قاسية ومؤلمة، إلا أنه من خلال الفن نستطيع أن نقول كل الحقيقة، ونسعد بها حتى ولو تألمنا، ونصفق لها حتى لو اكتشفنا مدي الخدعة التي نعيشها.

وهذا الفيلم قال كل الحقيقة، وأضحكنا كثيراً، وانتبهنا كثيراً، وامتلأنا بالمتعة كثيراً، خصوصاً عندما ينتهي وجميع أبطاله وشخصياته فوق قطعة من الأرض عائمة علي سطح من الماء، الخارج من نافورة، يتغنون ويعزفون الموسيقي ويرقصون، ويضحكون ويقبلون علي الحياة بتفاؤل وحب ونشوة.

انتهي فيلم «ماما ميا».. الساحر، وانتهت مدة عرضة علي الشاشة.

وبقي الجميع يسترجعون ما شاهدوه ويرددون مع تيترات النهاية، كلمات أغاني فريق الأبا التي غسلتنا من الأعماق، وأزاحت عن كاهلنا متاعب الحياة ومعاناتها، وسرت سعادة بالغة، نفضت عن المشاعر أكوام الصدأ والتلوث، لتعلن أنها مازالت حية نابضة، رغم كل الضغوط والأزمات، وأنها في عطش شديد للأفلام الموسيقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى