”ذهب مع الريح“ واتهامات بالعنصرية
75 عاما على ذكرى عرض عمل خالد في الحياة الأدبية والسينمائية
“سينماتوغراف” ـ جايلان صلاح
مما لا شك فيه أن مارجريت ميتشل وهي تكتب روايتها الدسمة “ذهب مع الريح” لم تكن لتتخيل أنها ستصنع عملاً خالداً في الحياة الأدبية والسينمائية. ثلاث سنوات هي المدة التي استغرقتها في كتابة ملحمتها الضخمة عن الحرب الأهلية الأمريكية وقصة الحب الملتهبة التصاعدية بين واحد من أشهر ثنائيات السينما العالمية سكارليت أوهارا وريت بتلر، وخلال شهر واحد من نشرها، كان المنتج دافيد سيلزنيك قد اشترى حق تحويلها إلى فيلم سينمائي ودفع لميتشل 50,000 دولارا مقابل ذلك.
لم يكن تصوير فيلم مثل ذهب مع الريح سهلاً، اختيار الممثلين في حد ذاته كان كابوسياً بكل المقاييس. تشبث دافيد سيلزنيك بالنجم وقتها كلارك جيبل، فاتن النساء ومعشوق المشاهدين في كل مكان، للعب دور البطولة أدى إلى تأخر تصوير الفيلم لمدة عامين كاملين، نظرا لالتزام جيبل بعقد مع شركة مترو جولدن ماير MGM الإنتاجية. أما عن اختيار الممثلة التي ستلعب دور سكارليت أوهارا فحدث ولا حرج. أسماء لامعة لنجمات شهيرات تم الزج بها أعلى قوائم الكاستينج casting ليظفرن بالدور. بيتي دافيز، كاثرين هيبورن، لوسيل بال، وغيرهن كثيرات تم اقتراحهن لأداء الدور الأسطوري والذي بنيت الرواية –ومن بعدها الفيلم- على كتفيه. ممثلات مغمورات صعد مشوارهن السينمائي للسماء بعد تقدمهن لاختبارات أداء دور سكارليت مثل سوزان هيوارد ولانا ترنر. الصدفة وحدها هي التي دفعت الممثلة البريطانية فيفيان لي، والتي لم تكن معروفة في هوليوود وقتها، على أن تطلب من وكيل أعمالها أن يزج باسمها في قوائم الترشيح، خاصة وأنها وجدت الكثير من الممثلين البريطانيين يتقدمون لاختبارات أداء دور ريت بتلر. في البداية لم يكن سيلزنيك مقتنعاً بقدرة لي على أداء دور أمريكية جنوبية قحة، خاصة وأنه عندما شاهد أحدث أفلامها “أمريكي في أكسفورد” A Yank at Oxford (1938) وجدها “إنجليزية زيادة عن اللزوم”. لكنه عندما قابلها مع عشيقها وقتها العظيم سير لورانس أوليفييه، انبهر بها وكتب لزوجته أنه وجد “الحصان الأسود لدور سكارليت أوهارا”.
لا داعي للقول بأن اختيار فيفيان لي لأداء الدور بدلاً من مئات الفنانات الأمريكيات أدى إلى غضب شعبي عام، خاصة وأن سكارليت أوهارا تعتبر أيقونة أمريكية، واختيار ممثلة بريطانية لأداء دورها ماهو إلا إهانة للقومية الأمريكية. لكن لي رغم جموحها وكونها من الممثلات التي يصعب التعامل معهن، إلا أن طاقتها التمثيلية الجبارة وإتقانها للكنة الجنوبية الأمريكية، جعلا منها أسطورة سينمائية وصلت بها وهي في عامها السادس والعشرين إلى الفوز بأوسكار أفضل ممثلة عن أدائها لسكارليت أوهارا، وهي أول ممثلة بريطانية تفوز بهذه الجائزة، وخلد دورها في قلوب الناس. تصدرت فيفيان لي كممثلة وكمؤدية لدور سكارليت العديد من قوائم مجلات السينما، فاختارت مجلة بريميير Premiere Magazine سكارليت أوهارا في المرتبة الثالثة في “أفضل 100 شخصية في تاريخ السينما العالمية” واختارتها جمعية الفيلم الأمريكي في المرتبة 16 من “50 أسطورة سينمائية”.
لم تكتفي جمعية الفيلم الأمريكي بتخليد فيفيان لي كممثلة في قوائمها، لكن “ذهب مع الريح” حاز نصيب الأسد في الاستفتاءات التي أجرتها الجمعية بمناسبة مرور 100 عام على انشائها، ففي قائمة “أفضل 100 فيلم أمريكي” جاء في المرتبة الرابعة، وفي مرتبة “أفضل 100 قصة غرام” احتلت غراميات ريت بتلر وسكارليت أوهارا المرتبة الثانية، وفي قائمة “أفضل 100 جملة حوارية سينمائية” جاءت جملة ريت لسكارليت في نهاية الفيلم ” بصراحة عزيزتي انا لا أبالي أبداً” في المرتبة الأولى، خاصة وأنها بالإنجليزية “Frankly my dear, I don’t give a damn” كانت أول جملة سينمائية تحتوي على لفظة damn العامية وتمررها الرقابة على المصنفات الفنية وقتها.
بدا أن “ذهب مع الريح” يتمرد على الكثير من المحظورات وقتها، وكان التمرد الأكبر في حصول النجمة هاتي ماكدانييل على أوسكار أفضل ممثلة مساعدة عن أدائها لدور مامي، مربية سكارليت المخلصة، الصريحة لدرجة لاذعة، والتي في مثابة الأم الثانية بالنسبة للفتاة الأمريكية المتمردة. رغم النقد الذي وجه ل “ذهب مع الريح” بصفة عامة بعدها، عن تزويره لحقيقة العبودية في أمريكا، وتصويره الخاطئ للحرب بين الجنوب والشمال حول حقوق العبيد، إلا أن ماكدانييل كانت أول ممثلة أفريقية أمريكية تترشح لأوسكار أفضل ممثلة مساعدة وتفوز بها، مما ساعدها فيما بعد على تطور مشوارها السينمائي وضمن لها دخلاً مرتفعاً ومستوى معيشي أفضل مما كانت عليه. وجهت انتقادات كثيرة لماكدانييل على أدائها المتكرر لدور الخادمة في الأفلام، إلا أنها –وربما بتقمص للسان مامي اللاذع- صرحت بأن الأفضل لها أن تمثل دور الخادمة مقابل 7,000 دولار أسبوعياً بدلاً من أن تكون خادمة في الحقيقة وتكسب 7دولارات في الأسبوع. بل إن ماكدانييل تشاجرت علناً مع ناشط من المدافعين عن حقوق الملونين والأقليات متهمة إياه بأنه ليس “أسوداً أصيلاً، ولا يحق له الحديث على لسان جميع الأفارقة الأمريكيين” عندما اتهمها بأنها “أنكل توم” –عبارة تستخدم لوصف الأفارقة الأمريكيين الذين يتذللون للبيض، ولا يدافعون عن حقوقهم المشروعة في مواجهة السلطة الأمريكية البيضاء- لرضاءها بالفوز بجائزة الأوسكار، رغم المعاملة السيئة التي تلقتها في حفل توزيع الجوائز حيث أجلسها القائمين على الحفل بعيداً عن بقية أبطال الفيلم لي وجيبل، كما لم يسمح لها بحضور العرض الخاص للفيلم في أتلانتا، هي وبقية الممثلين الأفارقة الأمريكيين، نظراً لقانون ولايات الجنوب والذي أوجب الفصل بين السود والبيض في الأماكن العامة.
أصبح “ذهب مع الريح” حصان هوليوود الرابح في الجوائز وأيضاً في شباك التذاكر. طبقاً لحسابات موسوعة جينيس العالمية عام 2011 فإن الفيلم حقق ما يقارب ال 3.3 بليون دولار عالمياً منذ تاريخ عرضه، مما يضعه على صدارة أكثر الأفلام تحقيقاً للإيرادات في تاريخ السينما العالمية. يعتبر “ذهب مع الريح” أيضاً من الأفلام الحائزة على عدد ضخم من ترشيحات وجوائز الأوسكار، أهمها جائزة أفضل مخرج وأفضل فيلم وأفضل ممثلة وأفضل ممثلة مساعدة وأفضل سيناريو من مجمل عشر جوائز، و 13 ترشيح.
رغم الحفاوة النقدية التي قوبل بها “ذهب مع الريح” وقتها، إلا أن إعادة قراءة الفيلم لم تكن في صالحه غالباً. فقد أبدى الناقد والمؤرخ أرثر شلسينجر اندهاشه من أن “ذهب مع الريح” من الأفلام التي لا تعلق في ذاكرة الجمهور، رغم أن ذاكرة السينما عامة قوية، وهي التي تخلد الأعمال الناجحة مهما طال الزمان. كما أيد هذا الكلام الناقد والصحفي ريتشارد شيكل والذي قاس معيار جودة الفيلم بمدى ما يتذكره الانسان منه، وفي حالة “ذهب مع الريح” فالصورة رديئة والحوار عادي، وأرجع هذا إلى أن الفيلم مصنوع بعين منتج وليس فنان، كل همه كان الأمانة للنص الأصلي المكتوب في دقة “لم تحظ بها أعمال شكسبير ولا تشارلز ديكنز بعظمتها” كما كتب فرانك نيوجنت في النيويورك تايمز، عام 1939.
من أكثر الانتقادات التي واجهها “ذهب مع الريح” فيما بعد كانت اتهامه بالعنصرية وتصوير الأفارقة الأمريكيين في صورة نمطية تعزز كونهم ليسوا أكثر من مجرد تابعين أو خدم للبيض، فكتب الناقد دافيد رينولدز، “بينما النساء البيض جميلات ومتأنقات، والرجال ساحرين ومتحضرين، يبدو السود في الخلفية مجرد عبيد قانعين بكونهم مواطنين درجة ثانية، وراضين بالتبعية لأسيادهم البيض.”
على الرغم من هذا، كانت هناك اتجاهات نقدية مضادة لهذه الآراء، فدافع الناقد توماس كريبس عن صانعي “ذهب مع الريح” لكونهم غيروا الكثير من النقاط العنصرية في الرواية وحذفوها في النسخة النهائية من الفيلم، مثل انتماء آشلي وريت بتلر وزوج سكارليت الثري فرانك كنيدي إلى جماعة الكو كلو العنصرية والتي كانت تروع وتعذب السود إبان الحرب الأهلية، كما تروع البيض المساندين لهم، في عمليات تطهير عرقية منظمة. تم حذف أي مقطع يمجد في الكو كلو كلان Ku Klux Klan ويظهرها أعضاءها بمظهر حاميي حمى أمريكا الشرفاء، كما تم حذف كلمة nigger المهينة من سيناريو الفيلم، رغم حشو مارجريت ميتشل الرواية بها عند وصف شخصيات العبيد. وقد عانى دافيد سليزنيك في هذا، لمحاولته التوفيق بين عدم تغيير النص الأصلي للرواية لئلا يغضب محبيها، مع حذف المقاطع العنصرية التي يرفضها لكونه يهودي ليبرالي مناهض للعنصرية.
واجه “ذهب مع الريح” انتقادات أيضاً بسبب مشهد إيحائي لاغتصاب ريت بتلر لزوجته سكارليت أوهارا، وإظهارها في اليوم التالي سعيدة ومنتشية لاستخدامه القوة في ممارسة الجنس معها، مما يعزز فكرة قبول المرأة للعنف الجنسي بصفة عامة. وقد أبدت الناقدة النسوية مولي هاسكل استنكارها لهذا المشهد، لا سيما أنه يثبت في أذهان النساء أن اغتصاب الرجل لزوجته ما هو إلا نوع من الرومانسية الممتزجة بالعنف، والتي ربما تحدث لفشل المرأة في التعبير عن رغبتها الجنسية بصورة واضحة، مما يؤثر على حق المرأة في حياة جنسية سليمة، واتخاذ قرارتها الجنسية بحسم سواء بالرفض أو بالقبول.
“ذهب مع الريح” سيظل رغم كل ما أثير حوله من لغط وجدل من أكثر الأفلام جمالاً وحضوراً في ذاكرة المشاهدين، وتكفي قبلة من ريت لسكارليت، أو فستان سكارليت الأسطوري المصنوع من قماش الستارة، أو جملة لاذعة لمامي منتقدة علاقة سكارليت وريت الشبيهة بلعبة قط وفأر، ليعلم الجميع أن السينما المخلصة والغارقة في التفاصيل الملتهبة لا تموت، بكل عيوبها وفضائلها.