رجال يوسف شاهين على الشاشة
نظرات العين هي أكثر ما كان يهتم به في تعبيرات الممثل
خاص ـ «سينماتوغراف»
بعد عرض فيلم «سكوت هنصور» ليوسف شاهين قال أحد النقاد : إن هذا المخرج يختار أبطاله بناء على معايير جسدية وشكلية ولا أعرف ما علاقة هذا بالتمثيل فهو أعاد اكتشاف هشام سليم في عودة الابن الضال ثم محسن محيي الدين في اليوم السادس وهاني سلامة في المصير ثم أخيرا أحمد وفيق في “سكوت هنصور” وكلهم لهم صفات جسدية متشابهة لحد ما، وإن كان الوحيد الذي ظهرت له موهبة حقيقية واستمر هو هشام سليم وكلهم استطاع شاهين أن يلبسهم ثوبه وجعلهم يتقمصون حركاته العصبية وطريقته في خطف الكلام والتلعثم فلا تكاد تفهم شيئا مما ينطقون ولا تعرف سببا لاختيارات شاهين الرجالية ..
نفس هذا الكلام تجدد مع فيلم إسكندرية – نيويورك.. حيث قدم شاهين خلاله الوجه الجديد أحمد يحيى .. ورغم قسوة الكلمات السابقة إلا إنها تنم عن جهل قائلها فيوسف شاهين له وجهة نظر أخرى في علاقته بالممثل لن يلمحها بوضوح إلا من حاول أن يجهد نفسه قليلا بمشاهدة أفلامه بنظرة أكثر عمقا ..
وبنظرة محللة على علاقة جو – كما يحب أن ينادى – بممثليه الرجال بداية من عمر الشريف مرورا بهشام سليم ومحسن محيي الدين وهاني سلامة وأحمد وفيق وليس انتهاء بأحمد يحيى بطل إسكندرية – نيويورك .. فجرأته في تقديم الوجوه الجديدة أوإعادة اكتشاف ممثل قدم من قبل أعمالا لم تكن كفيلة بإظهار موهبته مثل فريد الأطرش ومحمود المليجي وخالد النبوي ومصطفى شعبان لا بد وأن تلفت الانتباه إلى أن هناك مخرجا يحتفظ بعلاقة خاصة جدا مع الممثل..
في عام 1986 أجرى الكاتب حسين أحمد أمين حوارا مع يوسف شاهين سأله فيه عن حال التمثيل في مصر بعد عرض فيلمه «اليوم السادس» في مهرجان ريودي جانيرو فقال: «مستوى التمثيل عندنا في اعتقادي أصبح عاليا جداً، وارتقى بشكل ملحوظ خلال السنوات العشرين الاخيرة بالابتعاد عن الميلودرامية والتمسك بواقعية الاداء فإن سألتني عن اعظم الممثلين المصريين أجبت بلا ادنى تردد: محمود المليجي فقد كان الرجل من اجهل الناس بشؤون السياسة .. ضئيل الحظ من الثقافة .. وكثيراً ما كنا نضحك منه اثناء مناقشاتنا ..غير انه كان في التمثيل لا يضاهى .. ملك من السماء .. وكنت احياناً لا املك نفسي من البكاء اثناء تصوير المشاهد التي يظهر فيها خصوصاً في فيلم «الارض» وفيلم «اسكندرية ليه» ونور الشريف ايضاً ممثل ممتاز، بدأ بداية طيبة، ثم اهدر موهبته بقبوله أدواراً هابطة المستوى، ثم تدارك نفسه واصبح اعظم مما كان في اي وقت مضى، أما محمود مرسي فلا بأس به، غير انه محدود القدرة على تنويع ادواره أو تصوير شخصيات شديدة التباين والاختلاف، واحترامي له كأستاذ في معهد السينما أكبر من احترامي له كممثل. واقربهم إلى قلبي جميعاً تلميذي محسن محيي الدين».
هذه الآراء التي فجرها المخرج يوسف شاهين من 29 عاما من اليوم تلخص بإخلاص شديد وجهة نظره في التمثيل وعلاقته بالممثل، كما أنها توضح بالتفصيل مستوى الآداء الذي ينشده، ربما لذلك وخلال مسيرته السينمائية التي تجاوزت أكثر من نصف قرن منذ عام 1950 كان يقدم يوسف شاهين تقريبا ممثلا جديدا في كل عمل اخرجه كي يصل إلى ما يريده في فن التمثيل ..
دائما كان يجهد «جو» نفسه بالبحث عن المواهب الشابة فيذهب إلى حفلات الأوبرا ويشاهد أفلاما كثيرة ويجول بين مسارح الجامعات بحثا عن وجوه مميزة وقدرات فنية ربما تمكن من خلال أعماله من إخراج طاقاتها إلى مساحات أوسع ونطاقات أشمل .. ولا يكتفي بذلك بل كنت لن تجده يبدأ فيلما جديدا قبل عمل ” كاستنج ” للشباب ليختار أبطال فيلمه الجديد ..
ومثلا في فيلمه «إسكندرية نيويورك» ذهب شاهين إلى حفل في الأوبرا ليشاهد باليه زوربا الذي يقوم ببطولته راقص الباليه أحمد يحيى وبمجرد انتهاء عرض الفيلم حدد له موعدا لمقابلته .. وفي اللقاءات الثلاثة الأولى دار الحديث كله عن باليه زوربا وفي المقابلة الرابعة قال شاهين لراقص الباليه أحتمال سيكون لك دور في فيلمي القادم وفي المقابلة الخامسة وقع أحمد يحيى على عقد بطولة الفيلم ..
وبنفس أسلوب المنقب عن الوجوه الشابة شاهد جو أحمد وفيق بطل فيلمه “سكوت هنصور” وهو يمثل في إحدى مسرحيات الهواة فاستدعاه وأعطاه دور الشقيق الإرهابي في فيلم «الآخر»، بعدها قال له : أنت ممثل غير نمطي فإياك أن تستهلك موهبته، وانتهى الفيلم وعرض ليبدأ جو في بروفات فيلم «سكوت هنصور» ووقتها فوجيء أحمد وفيق باتصال يستدعيه للقدوم إلى مكتب الأستاذ فورا ليعطي له سيناريو الفيلم دون أن يعلم أي دور سيجسد حتى قيل له أنه بطل الفيلم ولم يصدق إلا بعد أن قالها له جو بنفسه .. وكانت النصيحة الوحيدة التي وجهها شاهين لوفيق هي أن الطاقة الحقيقية لتقديم أي شخصية ستكون من العينين فهي الأساس وليس تقلصات الوجه ..
نظرات العين هي أكثر ما يهتم به شاهين في تعبيرات الممثل فقد قال عن محمود المليجي من قبل : «كان محمود المليجي أبرع من يؤدي دوره بتلقائية لم أجدها لدى أي ممثل آخر، كما أنني شـخصياً أخاف من نظرات عينيه أمام الكاميرا» .
دليل آخر على أهمية نظرات العين لدى يوسف شاهين هو رفضه المطلق عمل فيلم عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر رغم ولعه الشديد بشخصه حيث قال: «رفضت عمل فيلم عن جمال عبد الناصر لانني لم اجد الممثل الذي يتميز بكاريزما عبد الناصر ولا حتي نظرة من عينيه .. فين الممثل اللي عنده عينا عبد الناصر؟ مفيش في الدنيا كلها .. أنا أقدر علشان أنا ممثل كويس قوي لكن انا قصير .. عبد الناصر حاجة تانية خالص».
ولعل ولع يوسف شاهين بالتمثيل يأتي في الأساس من رغبته الأولى في العمل كممثل فقد كان ينوي دراسة التمثيل أثناء وجوده في أمريكا فوجد أن شكله وتكوينه الجسماني لا يؤهلانه لنجومية التمثيل فاتجه للإخراج وترك التمثيل، لكن ولعه لم ينته أبدا فقد قال في أحد حوارته مع وليد شميط في كتابه يوسف شاهين حياة للسينما: «صرت أبحث عن ممثلين أمثل من خلالهم، ويا ويل الممثل الذى لا يكون أنا.. فعمر الشريف وغيره من الممثلين تعذبوا معي كثيراً لأن الممثل هو نفسه ولا يمكن أن يكون أنا ولذلك يحدث دائما اصطدام وتناقض وانفجار .. ووصلت إلى فترة شعرت فيها أنني في مأزق كبير طالما أنني لا أجد الممثل الذى يمكن أن يكون أنا. فقيل لي : لا يجب ان تجد نفسك .. انت ترغب في التمثيل فمثّل في فيلم واحد.. وكان «باب الحديد».»، ربما لذلك لن نجد فيلما لشاهين خاليا من ممثل يؤدي بطريقته فهو يصبغ ممثلينه بأدائه وأسلوبه في الكلام والحركة والانفعالات المتوترة والحادة والطفولية ..
عندما ذهب هاني سلامة إلى مكتب يوسف شاهين لعمل «كاستينج» فاجأه يوسف شاهين بطلب غريب فقد طلب منه أن يغني، وغنى هاني سلامة أغنية لعبد الحليم حافظ ثم طلب منه أن يستمر في غناء نفس الأغنية بعدها أختاره لبطولة أول أفلامه «المصير»، وعندما سأله هاني بعد انتهاء تصوير الفيلم عن سبب طلبه غناء نفس الأغنية أكثر من مرة وعن سبب اختياره هو بالتحديد لتجسيد الدور قال له شاهين: «طلبت منك تكرار غناء نفس الأغنية حتى أقيس انفعالاتك ونظرات عينيك في أدائها في كل مرة وأخترتك بالتحديد لأنك أعطيتني في كل مرة إحساسا مختلفا مع تغير نظرات عينيك بصورة أدهشتني» ..
عندما سئل هاني سلامة عن حقيقة أن العمل مع شاهين يقتل أي ممثل لأن من يمثل معه لا ينجح مع سواه قال: «هذه سخافات لايجب ان نرددها كثيرا فشاهين كان له الفضل في نجاح نجوم كثيرين أنا واحد منهم ومن ينكر ذلك فلايستحق الخير، وساظل مديناً له بنجوميتي حتى آخر العمر».
عندما شاهد يوسف شاهين شابا يقدم دور فاوست في السنة النهائية له بالمعهد العالي للفنون المسرحية قرر من داخله أن يكون هذا الممثل هو بطل فيلمه القادم «المهاجر» فبعد مشاهدته للمسرحية قال: «أنا عايز أشوف الواد ده» وبالفعل أعطاه دور عمره في فيلم المهاجر لينطلق بعدها خالد النبوي في عالم التمثيل، ورغم أنه كان قد قدم من قبل دورين صغيرين جدا في فيلمي «ليلة عسل» و«المواطن مصري» إلا إن شاهين لم يتردد للحظة في إسناد بطولة فيلم بحجم «المهاجر» له ..
وبنفس الطريقة اكتشف شاهين أن لدى مصطفى شعبان قدرات خفية لم تظهر كما ينبغي في فيلم «فتاة من إسرائيل» فأعاد أكتشافه بإعطائه دور كبير في فيلم «سكوت هنصور» وقد أجمع النقاد بعد مشاهدة الفيلم على أن مصطفى هو الممثل الوحيد الذي تمكن من الخروج من عباءة يوسف شاهين في الأداء .
علاقة يوسف شاهين بالممثل الرجل أقوى كثيرا من علاقته بالممثلة المرأة ربما لأن كل أفلامه تناقش هما عاما إما سياسيا أو اجتماعيا أو عقائديا وهي المواضيع التي يجب أن يتصدر الرجل بطولتها لكن لا يمكن أن ننكر اعتماده في أحيان كثيرا على بطلات نساء يقع عليهن العبء الأكبر في حمل مسئولية الفيلم رغم أنه يعلم جيدا أن أي فيلم يحمل توقيعه هو المسئول الأول والأخير عنه، ففيلم «صراع في الوادي» كان الاتفاق المبدئي مع البطلة فاتن حمامة وبدأت بعد ذلك رحلة البحث عن البطل فطرح شاهين عليها اسم شكري سرحان كبطل أمامها لكنها رفضت حتى لا تكرر العمل معه أكثر من مرة وأصر هو على شكري سرحان حتى أنه بدأ في البحث عن ممثلة أخرى لتؤدي الدور فهو يرفض الرضوخ للممثل بأي شكل من الأشكال لكنه اضطر للرضوخ لرغبتها لأنه وجدها الأصلح للدور وبدأ في البحث من جديد عن بطل آخر فقرر أن يستعين بصديق دراسته عمر الشريف والذي كان وجها جديدا وقتها وشاهده وهو يقدم دور هاملت على مسرح كلية فيكتوريا وكان عمر الشريف وقتها قد تخرج في الكلية ويعمل في شركات والده بتجارة الخشب في الإسكندرية فأحضره إلى القاهرة وأجرى له اختبار كاميرا نجح فيه ليصبح بعدها بسنوات نجما عالميا ..
كان يوسف شاهين لا يعرف سوى حقيقة واحدة في العمل وهي أن المخرج هو رب الفيلم ولا يجوز لأي ممثل مهما بلغت نجوميته أن يفرض رأيه عليه وهناك مثال على ذلك من تاريخ جو نفسه عندما أختار فريد الأطرش لبطولة فيلم «إنت حبيبي» مع شادية وكان يحاول قدر الإمكان أن يقدم فيلما مختلفا عما قدمه من قبل وقد واجه صعوبات كثيرة معه لأن فريد الأطرش تعامل معه كنجم وقاوم بعنف محاولات شاهين لتغيير صورته على الشاشة ورغم ذلك نجح شاهين في أن يسيطر عليه وكان فيلم «إنت حبيبي» بالفعل تجربة مختلفة تماما عن كل ما قدمه فريد الأطرش قبل وبعد عمله مع الأستاذ .
كما كانت علاقة يوسف شاهين بالممثل علاقة متشابكة جدا فهو يرغب في أن يرى الممثل من خلال مرآته هو ورغم ذلك – كما أكد عزت العلايلي – الذي عمل في أكثر من فيلم لا يحترم إلا الممثل الذي يبتعد عن محاكاته ولا يعتمد على التقليد لأنه يرغب في أن تكون للممثل شخصيته المستقلة .. وكان يوسف شاهين عندما يتحدث عن أبطاله يتحدث بحب غير عادي. فعن محسن محيي الدين الذي قدمه في أكثر من فيلم قال: «محسن محيي الدين بطل معظم أفلامي الاخيرة ممثل رائع، وموهبة اعتز حقيقة باكتشافها والاسهام في انضاجها.. انه بذل في أفلامي جهداً يعجز عن النهوض به أقوى الرجال وحملته ما قد لا يطيق حتى يأتي اداؤه كاملاً من الوجوه كافة فقد اقتضى مثلا دوره في فيلم «اليوم السادس» – وهو دور القرداتي – ان يقضي الاسابيع في التدريب مع القرد، والشهور في تعلم الرقص الاستعراضي وكنت اضطره احياناً إلى اعادة تمثيل اللقطة الواحدة أكثر من عشر مرات».
أليست هذه الكلمات قريبة جدا من تلك التي قالها عن أحمد يحيى عندما أكد: «شاب خطير بمعني الكلمة فضلا عن انه الراقص الاول في دار الاوبرا المصرية فانه ممثل ضخم الموهبة لدرجة انني افكر ان اقدمه في فيلم عن هاملت خلال معالجة خاصة بي».
الكلمات نفسها لم تتغير وأسلوبه في التعامل مع ممثلينه لم يتغير منذ بدأ وحتى مات ولذلك كان وما يزال اسم يوسف شاهين اسما ذا وقع خاص في الأذن ننجذب إليه سريعا كلما سمعنا : «فيلم من إخراج يوسف شاهين».