رمضان والسينما في ثلاثين عامًا (الحلقة 30 والأخيرة)
حلقات يومية يكتبها ناصر عراق لـ «سينماتوغراف»
السينما تتجرأ أخيرًا وتنتقد نظام عبد الناصر وهو مازال حيًا!
المصريون يتزاحمون على أبي فوق الشجرة في أول العام ويضحكون على دلع البنات في رمضان 1969
ها قد وصلنا إلى نهاية رحلتنا مع رمضان والسينما في ثلاثين عامًا، بدأناها منذ عام 1940، وننتهي اليوم مع سنة 1969، وشتان بين العامين مصريًا وسينمائيًا.
لكن قبل أن نستخلص أبرز النقاط في هذه الرحلة الشاقة والممتعة، تعالوا نطل سريعًا على أبرز ما حدث في عام 1969 على مستوى الشاشة البيضاء.
أنت تعرف أن الاستعدادات على الجبهة كانت تسير على قدم وساق عام 1969، وأن جيشنا بدأ حرب الاستنزاف ضد العدو الإسرائيلي الذي اغتصب قطعة من أرضنا قبل عامين، وأن الانتقادات ضد النظام طالت عبد الناصر شخصيًا، رغم الهالات التي كانت تقترن باسمه وقامته، فقد أحدثت ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم دويًا هائلا في أوساط الطلاب الذين نظموا أول مظاهرات ضد عبد الناصر في سنة 1968، احتجاجًا على الأحكام المخففة ضد قادة الطيران في حرب يونيو، وأصبح (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) هو شعار الدولة الرسمي. ورغم ذلك، فقد ظلت السينما – في مجملها – سينما محافظة لا تعرف الفن الثوري، ولا تؤمن إلا بشباك التذاكر، وها هو عبد الحليم حافظ النجم الأوفر حظا في تاريخ الغناء يقدم آخر أفلامه في 17 فبراير من ذلك العام، وأعني فيلم (أبي فوق الشجرة) للمخرج حسين كمال الذي حقق نجاحًا مذهلا إذ استمر عرضه في سينما ديانا 16 أسبوعًا متواصلا، ومع ذلك فالفيلم مغرق في البهرجة اللونية.. منعدم الصلة بما يجري في مصر أو يكاد!
فريد شوقي دائما
استقبل المصريون أول أيام شهر رمضان المبارك في 11 نوفمبر من عام 1969، وفي 7 رمضان – 17 نوفمبر – عرض فيلم (دلع البنات) للمخرج حسن الصيفي وبطولة فريد شوقي ونيللي، وهو فيلم كوميدي بسيط، وفي اليوم نفسه عرض فيلم (الشيطان) للمخرج محمد سلمان، وبطولة فريد شوقي أيضا (كان عمره آنذاك 49 عامًا)، ومعه شمس البارودي، والفيلم يدور في إطار بوليسي عن عصابة تتاجر في الآثار المصرية.
لكن في ذلك العام قدمت السينما فيلمين مهمين ينتقدان نظام عبد الناصر بصورة لا يخطئها المشاهد الحصيف، الأول هو (شيء من الخوف) لحسين كمال عن رواية لثروت أباظة، وعرض في 3 فبراير، والثاني فيلم (ميرامار) لكمال الشيخ عن رواية لنجيب محفوظ، وقد عرض في 13 أكتوبر 1969.
خلاصة الرحلة
من أهم الملاحظات عن رحلة الثلاثين عامًا مع رمضان والسينما المصرية أن المصريين عشقوا السينما منذ عرض أول فيلم واسمه (في بلاد توت عنخ آمون)، وذلك عام 1923، وأن الأجانب الذين كانوا يقيمون في مصر قبل يوليو 1952 أسهموا بقوة في توطيد أركان هذه الصناعة، كما أن الجمهور المصري قديمًا لم يجد أي تعارض بين الصيام ومشاهدة الأفلام، وهكذا كانت دور العرض تحرص على تقديم أفلام جديدة في الشهر الفضيل حتى لو كانت هذه الأفلام تحتوي على مشاهد عشق وغرام أو عنف وخداع أو صالات رقص تقرع فيها كؤوس الخمر، لأن المصريين كانوا يدركون آنذاك أن ما يرونه على الشاشة ليس حقيقيًا، وإنما هو مجرد تمثيل، كان ذلك قبل أن تغزو الوجدان المصري السوي ثقافة تحريم كل شيء التي وردت إلينا بدءًا من سبعينيات القرن العشرين ومازالت، فدمرت الجهاز النفسي للغالبية، وسمحت للأفكار المتطرفة بالرواج والانتشار في ظل غياب العدل الاجتماعي.
يصح القول أيضا إن الإنتاج السينمائي الذي زاد وارتفع من منتصف الأربعينيات حتى منتصف خمسينيات القرن العشرين تراجع مع مطلع الستينيات، بسبب انتشار التلفزيون من ناحية والنهوض المسرحي من ناحية أخرى، فقد عرضت الشاشة البيضاء عام 1954 أعلى عدد من الأفلام الجديدة وهو 68 فيلمًا، في حين أن سنة 1966 لم يتجاوز عدد الأفلام الجديدة 36 فيلمًا!
أما أهم ملاحظات هذه الرحلة المثيرة أن السينما المصرية أسيرة الفكر الهوليودي بشكل عام، وأنها سينما محافظة تخشى من التجريب أو الاقتراب من المناطق السياسية الحرجة، ومع ذلك فهي أفضل وثيقة اجتماعية – من لحم ودم – عن حال الناس ومزاجهم وصراعاتهم وأفكارهم في القرن الماضي، كما أنها منحت المصريين السعادة والمرح والحبور بامتداد القرن العشرين، وهي نِعَم نحتاج إليها باستمرار.