«روما» المرشح لاقتناص أوسكار أفضل فيلم أجنبي: قصة امرأة عادية وعمل غير عادي يستحق المشاهدة
الوكالات ـ «سينماتوغراف»: كارين جيمس
أغدق النقاد الثناء على فيلم “روما”، من إخراج ألفونسو كوارون، بعد عرضه في عدة مهرجانات سينمائية خلال الأسابيع القليلة الماضية، وهو ثناء مستحق.
يعد فيلم “روما” جميلا من كافة الأوجه، بدءاً من صوره بالأبيض والأسود التي حيكت ببالغ الدقة، إلى قصته الشخصية جدا للخادمة الشابة “كليو”، وهي قصة ليست بعيدة عن عالمنا.
تدور أحداث الفيلم في مكسيكو سيتي ما بين عامي 1970 و1971، وهي أحداث مستوحاة من قصة امرأة حقيقية تدعى ليبو، التي استلهم منها المخرج شخصية “كليو”، وهي عاملة منزلية ومربية أطفال كانت تعمل لدى أسرة ميسورة تشبه كثيرا أسرة مخرج الفيلم.
و”روما” هو اسم الحي الذي تربى فيه المخرج كوارون، وفيه صورت مشاهد الفيلم أيضا. لكن تلك التفاصيل المقاربة للواقع أقل أهمية من العاطفة التي يموج بها الفيلم من أوله لآخره معبرا عما يكنه المخرج من حب عميق واحترام جم لـ”كليو”، وارتباطه بمكان وزمان نشأته.
يبدأ الفيلم بمشهد لأحجار مربعة مهدت مدخل بيت الأسرة، وقد صورت من أعلى حتى بدت أشبه بنماذج من الماس في صورة انطباعية بحتة لا تتكرر كثيرا في الفيلم؛ وهي تشير إلى أسلوب كوارون في تحويل الأشياء المعتادة إلى دلالات جديدة.
وتنهمر المياه فوق تلك الأحجار، وأخيرا تستقر الصورة على الأرض حيث تنظف “كليو” مدخل البيت.
يحب الأطفال الأربعة تلك المرأة، التي تهمس إليهم بهدوء “استيقظوا يا ملائكتي” قبل أن يبدأوا يومهم.
لكن كوارون يحدد بوضوح دورها كعاملة منزل، تتقاسم مع أخرى غرفة مرفقة بالبيت، حيث تعمل بلا كلل، وتشاهد التلفاز مع الأسرة، وتقاطع مشاهدتها كلما طلب الأب الشاي. وهي، مثل كثيرات غيرها، تُعد من الأسرة أحيانا، ولا تعد منها في نفس الوقت.
لاحقا سيعلم الأطفال ما تمر به الأسرة من أزمة، فالأب الذي يتظاهر بالسفر للعمل في الحقيقة بصدد ترك الأم لمرافقة امرأة أخرى. وخلال الفيلم تنجح مارينا دي تافيرا في تمثيل دور الأم القوية التي تخفي ألمها قدر المستطاع.
لكن قصة هجر الزوج مجرد خلفية لقصة “كليو” نفسها، التي تؤديها ياليتسا أباريسيو ببراعة رغم أنها المرة الأولى التي تمثل فيها. وكثيرا ما تركز الكاميرا خلال الفيلم على وجه “كليو” لتعكس أباريسيو انفعالاتها بعد أن تعرف أنها حبلى، وبعد أن يتخلى صديقها عنها.
ويتميز أسلوب الفيلم عن أغلب الأفلام المشابهة بالتصاقه الوثيق بخبرة المشاهد. ويستدعي كوارون كلاسيكيات الواقعية الإيطالية الجديدة كفيلم “لصوص الدراجات”، مستخدما الأبيض والأسود في مدى طبيعي من الرمادي، مبتعدا عن اللون المركز الذي اشتهرت به أفلام هوليوود الكلاسيكية التي يُطلق عليها اسم “الفيلم نوار”.
ويعتمد المخرج على التصوير باستخدام عدسة بحجم “65 مم” من أجل مشاهد عريضة تنتقل خلالها الكاميرا أحيانا ببطء من اليسار إلى اليمين، دون الاستعانة بمونتاج مستهلك لتوجيه نظر المشاهد أو أحاسيسه.
وينجح الفيلم بشكل مدهش في خلق عالم فعلي يجتذبنا لحياة شخوص واقعية كالتي نلتقيها كل يوم؛ ومن ثم يتطلب شاشة كبيرة لإدراك كافة أبعاد هذا العالم.
وينجح كوارون في إخراج لحظات واقعيته اليومية بشكل مؤثر. فصديق “كليو” يتركها في السينما، ويخرج دون أن يخبرها بأنه لا يعتزم العودة.
بعدها، تجلس وحدها على رصيف الشارع ممسكة بمعطفه الذي تركه قبل خروجه، ويرتسم على وجهها الارتباك ثم خيبة الأمل، ولا تظهر عليها علامات الشفقة على الذات. إنه عالم لا مكان فيه لمشاعر مفتعلة جياشة.
وتتعامل شخصيات الفيلم مع صدماتها بثبات، فيما يخلق كوارون صورا معقدة متقنة لمجرد عرض تفاصيل واقعية.
وخلال زيارة “كليو” لأحد المستشفيات تقع هزة أرضية، وتلقي بعينيها بهدوء على حطام متساقط فوق حضَّانة أطفال (ولا ينسى كوارون أن يرينا أن الطفل مازال يتنفس).
كذلك خلال لقاء الأسرة بالأقارب في العام الجديد يقع حريق بالغابة القريبة ويشترك الجميع، ومنهم الأطفال، في سكب دلاء الماء على النار كأنها لعبة ممتعة أثناء قضاء العطلة.
ولا يغفل كوارون القلاقل السياسية خلال فترة السبعينيات، ولكنه يعرضها كما تراها شخصيات الفيلم. فجدة الأطفال تأخذ “كليو” لمحل أثاث لشراء مهد لوليدها، في دلالة على مدى مراعاة الأسرة للمربية، وخارج النافذة يتظاهر طلاب من أجل الديمقراطية ويطلق الجنود النار عليهم ويقتلون كثيرين منهم، في تمثيل لحدث وقع فعلا في المكسيك وعرف بمذبحة كوربس كريستي.
أما الشخصيات فلديها أحداثها الخاصة التي تغير حياتها. ويستخدم المخرج مشاهده الطويلة المأثورة (وقد سبق أن استهل فيلمه “غرافيتي” (الجاذبية) بمشهد متصل لمدة 17 دقيقة) لتصعيد التوتر بإعطاء مجريات المشهد حقها.
وبينما كانت “كليو” في المخاض نراها على سرير المستشفى في المقدمة، بينما يتابع الأطباء الطفل في الخلفية ليتمكن المشاهد من خلال التصوير المزدوج من مراقبة تفاصيل وجهها وما يدور حولها.
وفي مشهد آخر، تقصد الأسرة أحد الشواطئ وتسحب الأمواج اثنين من الأطفال للداخل ويكون على “كليو” التصرف بأي وسيلة لإنقاذهما رغم عدم إجادتها السباحة.
ومع التفاف الأسرة لمعانقة “كليو” قرب النهاية، تخرج كشخصية عادية وبطلة غير عادية في الوقت ذاته، بها ما بها من صلابة وقوة دون أن نرى انفعالات ضخمة.
يمتاز كوارون أيضا بتنوع أسلوبه من فيلم “وأمك أيضا” الكوميدي، إلى “هاري بوتر وسجين أزكابان” أفضل أفلام هذه السلسلة.
وفيلمه “جاذبية” الفائز بالأوسكار يعد فيلما مبالغا في تقديره، أما فيلمه “بني البشر”، وهو عن مستقبل يائس للبشرية، فهو مبهر بكل معنى الكلمة، وكان عمله الأروع.
لكن في “روما” لم يكتف كوارون بالإخراج، بل كتب وقام بأعمال مونتاج وتصوير سينمائي أيضا. وكساحر أخذ ذاكرته الخاصة، صانعا منها فيلما مدهشا ومهديا إياه للمشاهد.
وكم يصعب أن تجد فيلماً يوافق ما أغدقته عليه مهرجانات البندقية وتورونتو ونيويورك من مديح، ولكن رغم كون الفيلم بالأبيض والأسود، ومترجما من الإسبانية بطول ساعتين وربع، فقد استحق ذلك. فـ”روما” هو فيلم العام، الأفضل والأكثر فنية.