«ريتسا» توليفة سينمائية من ثلاث قصص في عالم متشابك
«سينماتوغراف» ـ متابعات
لأول وهلة يشعر الجمهور الذي جذبه الفيلم المصري “ريتسا” المعروض حالياً في عدد من دور العرض بالقاهرة، أنهم يشاهدون فيلماً أجنبياً، فالاسم لا يوحي من قريب أو بعيد بمصريته، ومع تتابع المشاهد يتأكد الجمهور أنهم أمام فيلم يدور في مدينة الإسكندرية المطلة على البحر المتوسط، والتي اشتهرت بأنها من المدن التي انصهرت فيها حضارات وثقافات متنوعة (كوزموبوليتانية)، وهذا الوصف هو جزء محوري من القصة التي تناولها الفيلم.
اعتاد الفنان محمود حميدة بطل الفيلم الإبداع في هذا النوع من الأعمال التي تجمع بين الرومانسية والتراجيديا، وربما تكون هي الثيمة التي جذبت البطل الثاني الفنان أحمد الفيشاوي الذي تخلى عن الكثير من طقوسه الشكلية الاستعراضية التي صاحبته في بعض الأعمال، وبدا متسقاً مع شخصية مالك منصور مؤلف رواية “ريتسا” في الفيلم من حيث الثقافة والحياة العبثية في بعض جوانبها.
لعب محمود حميدة دور القبطان حداد فريد، وهي الشخصية الرئيسية في الرواية بجانب ريتسا التي تحدثت عنها وكأنها من وحي خيال المؤلف، وانتقلت منها سريعاً إلى الواقع بلا تكلف أو استرسال في فك اللغز بين الجانبين.
مزج مؤلف الفيلم معتز فتيحة بين العمل الأدبي “ريتسا” والفيلم، وأزال المخرج أحمد يسري التداخل الذي انتاب الجمهور من خلال تترات المقدمة، والمشهد الأول الغامض في الفيلم، والذي تخيل فيه حداد محبوبته ريتسا جالسة أمام البحر في الإسكندرية، على الرغم من رحيلها قبل عقود طويلة.
ريتسا هي فتاة إيطالية قامت بدورها الفنانة التونسية عائشة بن أحمد، أعجب بها حداد عندما كان يعمل قبطاناً صغيراً في زمن الحرب العالمية الثانية، ثم غادرت المدينة ولا يعرف عنها شيئاً، وتكشفت ملامح القصة تدريجياً مع صدور رواية مالك منصور التي تحمل الاسم نفسه، واستقى المعلومات عنها من فتاة على علاقة عاطفية بها، وقامت بدورها أيضاً عائشة بن أحمد، واسمها في الفيلم مانويلا وهي حفيدة ريتسا.
بدت معالم الفيلم متشعبة ومليئة بالألغاز التي هي بحاجة إلى تفكيك، وفي الوقت الذي تبدو فيه المشاهد رومانسية تنتقل إلى التراجيديا، الأمر الذي وضع الجمهور في حالة استنفار لفك شفرة الفيلم، والذي كان يتابع سريعاً خاصة عندما التقى حداد مع مانويلا في المطعم الذي يحمل اسم ريتسا والتي جاءت من جنوب إيطاليا لتعيد افتتاحه.
عمد المخرج إلى أن يكون أول لقاء بين حداد وريتسا في شبابه مماثلاً لأول لقاء بينه ومانويلا وهو في شيخوخته، في المطعم نفسه، وعلى موسيقى راقصة، وكأن الزمن لم يتحرك به، وفي المشاهد التي استرجع فيها حداد ذكرياته مع ريتسا قام الفنان الشاب يوسف عثمان بدوره في المرحلة العمرية المبكرة، وقامت عائشة بن أحمد بالدورين، ولم يلاحظ الجمهور فرقاً بينهما سوى في شكل الملابس التي اختلفت باختلاف الزمان.
كادت مانويلا تعيد تكرار مأساة جدتها (ريتسا) عندما حملت من الأديب مالك منصور (أحمد الفيشاوي) وقررت مغادرة الإسكندرية حيث شعرت أن حبه لها ينتابه تردد وقلق، وبدلاً من مواجهته اتخذت قرارها بالرحيل، كما فعلت ريتسا مع حداد.
جاء فك اللغز عندما توطدت علاقة حداد مع ماونيلا وحكت له قصة رحيل ريتسا وهي حامل منه وهو لا يعلم، وأنها لم تتزوج، وحافظت على ذكرى علاقتها به، وفهم أن مانويلا حفيدته، وقد تلقى الأمر بصدر رحب وبدت عليه السعادة من دون نقاش أو أخذ ورد، ربما لأن حياته بمفرده هي التي دفعته إلى التسليم بهذا الواقع.
مضت قصة حداد ومانويلا في جزء منها استرجاعية منطقية، ونجح المخرج في إزالة النفور الذي يمكن أن ينتاب الجمهور من هذه المشاهد، حيث تمكن من الانتقال بسلاسة بين الماضي والحاضر، وأسهمت موهبة يوسف عثمان في تمرير هذه المعادلة بأقل قدر من الارتباك الفني، والذي كلما لاحت معالمه يأتي ظهور محمود حميدة ليبدده بحنكته المعتادة ومن خلال كاريزما فنية طاغية.
كان هذا البعد أحد الخيوط الثلاثة الرئيسية في الفيلم التي ألقت بظلالها على الخيطين الآخرين، فشخصية مالك منصور متقاطعة مع الثلاثي مانويلا محبوبته، وحداد بطل عمله الأدبي، وريتسا التي حملت اسم روايته وجدة مانويلا، ومالك أو أحمد الفيشاوي الذي بدا في المشاهد الأولى رصينا ولا يعيبه سوى التردد في الاقتران بمانويلا، ظهر بشخصية أخرى عندما اقتربت منه الفنانة الشابة كارولين عزمي المتيمة به وبكتاباته.
جاءت شخصية الفتاة المتعلقة بأديب مشهور تقليدية في جوانب مختلفة في الفيلم، وأعادت شخصية مالك نفسه الصورة النمطية عن البعض من المثقفين الذين يدمنون شرب الخمر، ولهم طقوس غريبة في الكتابة، ولا يضعون حدودا للعلاقات الجنسية.
في مشهد داخل منزل مالك شرب حتى الثمالة وكاد يعتدي عليها، غير أنها صدته تماماً، مع أن نظراتها أحياناً كانت محملة بمعان جنسية، وقد لجأ المخرج والمؤلف إلى مشهد الصد المفتعل كي يمهد للمشهد التالي، فعندما حاول مالك الاعتداء عليها بقوة سقطت على الأرض فأصيبت بجرح في رأسها بموجبه نقلها إلى المستشفي.
تقاطع المكان مع انتقال حداد إلى المستشفى أيضاً عقب إحساسه بالتعب، فقامت ماونيلا بهذه المهمة التي ألغت سفرها لأجلها، ووجد الخيط الأول والثاني في مكان واحد، وتلاحمت الشخصيات الأربع معا تمهيدا لوصول الخيط الثالث إلى المكان نفسه.
كان هذا الخيط أكثر الخيوط ضعفاً في الفيلم، غير أن الأداء التمثيلي للثلاثة (أمير ومي ومريم) جاء مبهراً، وكشف أن الفنان أمير المصري الذي شارك في أول ظهور له مع محمد هنيدي في فيلم “رمضان مبروك أبو العلمين حمودة” ممثل واعد، واستفاد من مشاركته في بعض الأفلام الأجنبية والوصول إلى مرحلة متقدمة من النضج الفني. كان الفنان أمير المصري ومي الغيطي ومريم الخشت هم أبطال هذا الخيط، فالأول زوج للثانية وعاشق للأخرى، وكعادة الكثير من القصص المصرية تنشب مشكلات بين الزوج والزوجة على إثرها يجد ملاذه في عشيقة تنتظره بلهفة، تبدو متحفظة على وجودها في حياة رجل متزوج ثم تبدأ تطارده بذريعة أنها لا تستطيع الاستغناء عنه.
كذلك بالنسبة إلى كل من مي الغيطي ومريم الخشت، ففي كل المواقف التي تتطلب انفعالات حادة جاءت المشاهد منطقية ولم تصطحب معها مبالغة أو دهشة سلبية، وأدت كلتاهما الدور بيسر وإقناع، ما يؤكد القدرة على التعامل مع الأحداث المتقلبة التي تنتقل من التراجيديا إلى الرومانسية أو العكس.
حاول المخرج أحمد يسري زيادة المساحة التي يتحرك فيها الفنان أمير المصري الذي قام بشخصية حسام وتقديمه كممثل يتحمل بطولة بعض الأفلام لاحقاً، وهو ما فرض عليه أن يكون حلقة الوصل بين الغيطي والخشت، ويقع في عقدة التعاطف مع الأولى بسبب اكتشاف مرضها الخبيث، والتخلي عن الثانية التي بدأت تطارده وهو في طريقه إلى الانحياز إلى زوجته لظروفها المرضية، والتي استدعت أن يذهب بها إلى المستشفى، وهو المكان الذي التقى عنده الخيط الأول والثاني.
كانت المفاجأة أن حسام هو ابن حداد فريد، وخال مانويلا التي سارعت بالاتصال به لتبلغه أن والده مريض في المستشفى، وهنا التقى الجميع في هذا المكان، حيث طلب حداد الحديث مع مالك ليبلغه بأن ماونيلا حامل وتريد الزواج منه وأنه جدها، وجاء مشهد النهاية ليعيد صياغة العلاقة بين الخيوط الثلاثة وتتجمع عند حداد، فهو العنصر المشترك الرئيسي بينها والرابط الإنساني القوي والعنصر المشترك في حالتي الرومانسية والتراجيديا.