«ريح السد».. رموز ودلالات انكسار جيل الثمانينات (1 ـ 2)
منذ بدايته السينمائية نجد أن نوري بوزيد يمتلك أدوات ولغة سينمائية بليغة يوظفها بمعرفة فنية تحمل جماليات ترقى للفهم العالمي، وتضعه كسينمائي محترف يحمل فكراً وأيدلوجية يسارية لا يخفيها أو يخاف ظهورها، فشخصياته من البسطاء المقهورين، وفي فيلمه «ريح السد» (1986) يغوص بنا المخرج التونسي في عمق شابين (هاشمي، وفرفار) حيث يحضر الماضي بقسوته البشعة، فالنجار الذي يعلم الفتيان صنعة النجارة لم يكن يتورع عن التحرش بهم واغتصابهم جنسياً، لذلك يستحضر أحدهما وهو هاشمي تلك الذكريات في أيام عرسه فتتغير أحواله، فذلك الماضي يطارده ويقلق مضجعه، فيحاول الهرب إلى البحر تارة أو إلى ذلك العجوز اليهودي الذي علمه عزف العود، ومنذ البداية نتعرف على الهاشمي ثم صديقه الذي يطرده والده من البيت ويرمي بملابسه فيقرر ترك مدينة صفاقس واصفاً إياها أنها لم تعد تصلح للعيش، حيث يستكشف الفيلم حالة جيل الثمانينات ومنها هذا الشاب الذي يواجه الانكسار ويبحث عن مخرج أمل وسعادة، وعلى لسان العجوز نسمع عبارات رثاء وحسرة على أيام وليالي صفاقس حيث كان المجتمع لوحة موزاييك للتعايش السلمي والصداقات بين المسلمين واليهود والمسحيين وكذلك التنوع الثقافي.
صدمة البداية
يدرك بوزيد أمراض مجتمعه في تلك الفترة ويشخص الأزمة بجدية، لهذا لم يتبع أساليب ملتوية وفضل أن يكون صريحاً رغم ما تحمله المشاهد من صدمة، وهو لا يميل إلى الكلمات الفضفاضة، ومصداقية ما يعرضه يجبره أن تكون عبارات شخصيات فيلمه من الشارع وباللهجة العامية، ولهذا لا نستغرب عند سماعنا أحاديث عن الرغبة الجنسية.
في بداية الفيلم يصدمنا بوزيد بلقطة يريدها أن تلتصق في ذهننا وهي اللقطة الأولى لديك يبدو جريحاً يرتجف، ومن الصورة الأولى يوحي بشخص لا نراه يرمي الديك الجريح على الأرض وبقعة دم أمامه ثم ينتفض ويتقلب كأن أحداً نحره وتركه على هذه الأرضية الصلبة، ما نراه لحظات أخيرة مؤلمة لمخلوق حي، تحمل هذه اللقطة وتختصر فكرة الفيلم وتنبهنا أننا سنكون مع لحظات موجعة، حيث سنتعايش مع جرح يبحث عن علاج ويتمسك ببعض المسكنات كالخمرة والتشرد ثم لذة عابرة بدار قوادة لكن الخمر والجنس والتسكع لن يكون إلا مزيداً من الإحساس بالجرح.
إشارات متعددة
يجد نوري بوزيد لذة كبيرة في العجين فلا يكاد يخلو فيلم له من مشهد إعداد الخبز وعجنه، لعل اللون الأبيض للخبز يغريه ووجود الفرن على مقربة يؤجج مشاهد النار والدخان وعملية نضج الخبز، وكلها عناصر يعشقها المخرج وهي إشارات متعددة المعاني مثيرة للكثير من الأحاسيس، عجين الخبز تعني أيادي نسوية ثم وجوه وأجساد نسوية، تعكس أحاديث وضحكات وطقوس وترانيم وأغاني شعبية، وهو لا يتأخر عن تقديم كل هذا في طقس احتفالي أو عائلي محدود، أو في مكان عمل وبين صديقات.
يتحول الخبز بلونه الأبيض إلى عنصر فعال ودلالة نشطة تتطور معانيها مع كل لحظة، الأيادي التي تعجن وتخبز متعددة الألوان وقد لا تقودنا الأحاديث المقتضبة إلى فهم بداية الحكاية لكنها تفتح شهيتنا على الأقل لشيء ما أو سؤال صغير.
لا يتأخر نوري بوزيد لعرض النار وقد تكون نار الفرن أو موقد الشاي أو حريق أو على الأقل شعلة عود ثقاب، وفي المشهد الثالث من الفيلم نرى شعلة نار ناعمة تنبعث من موقد صغير لإعداد الشاي بورشة النجارة، نلاحظ أن تقديم الشخصية يأتي في أغلب الأحيان عبر إشارات ودلالات جمالية ثم تظهر، وهنا يبتعد المخرج عن الطرح والعرض الأدبي ثم نرى هاشمي يدق بأزميل الخشب داخل الورشة.
تحتل المرأة مكانة مهمة في جميع أفلام بوزيد وهو لا يتوقف عند نموذج واحد، حيث يتعرض هاشمي لموقف نكتشف ضعفاً ما فيه، في المشهد الرابع عندما يدخل هاشمي لتعبئة الماء عند جارته التي نرى الرغبة في عينيها، تتحرش به يفر كطفل صغير، بعد هروبه يرى كتابة على الحائط (فرطوس ليس رجل)، ثم نرى والد فرفار يرمي بملابس ابنه بالشارع، نتعرف على فرفار الوجه الثاني لعملة الخيبة، فرطوس شخصية نزقة متمردة ومكبلة بهذا المكان وهو يتمنى مغادرة صفاقس ويراها سجناً لا فرح فيها، ليس القضية وضع مادي صعب وظروف اجتماعية، القضية أكبر من ذلك كونها جرح داخلي يكبر في نفس هاشمي الذي يتذكر في هذه الأيام القليلة قبل حفل عرسه ما حدث له ولصديقه فرطوس من تحرش واستغلال جنسي من معلمهم الذي علمهم مهنة النجارة.
هموم البسطاء
يحضر الإزميل والخشب في مسار طول الشريط، الطرق بالإزميل على الخشب سنسمعه ونراه كفعل بمختلف المواقف وهو كذلك يحمل دلالاته الخاصة.
بوزيد كل مرة يختار قضية تونسية ويصورها في تلك الأحياء البسيطة، وأبطاله هم هؤلاء البسطاء بكل همومهم وأوجاعهم ولغتهم وكلامهم حتى لو لم يكن أدبياً أو لائقاً، نرى ونسمع والد فرطوس بكل عفوية يسب ابنه ويلعنه أمام الناس ثم نسمع فرطوس يرد ويتحدث أيضاً بكلام يخلط فيه الكثير من السب.
اللهجة التونسية الدارجة لا تمثل إعاقة في فهم أفلام بوزيد، والفضل يعود لقوة الصورة واللغة السينمائية السلسة والبليغة، في فيلمه «ريح السد» نتعايش مع حالات وأمكنة وشخصيات وألم، صور بوزيد كل أفلامه في تونس وباللهجة التونسية وبكادر تمثيلي وتقني تونسي، كونه يطمح بسينما تونسية خالصة وقد حصلت بعض أفلامه على دعم من هيئات ثقافية فرنسية ولكنه لم يخضع لأي رقابة أو إملاء من أحد ويعترف بإحدى مقابلاته الصحفية أنه وغيره يلجؤون إلى تضخيم الكلفة الإنتاجية وعندما يحصل على نصف الميزانية يباشر بالتنفيذ ولم يكن يتنازل أو يخضع لأي تأثير ولا يقبل أي تعديل من أي جهة داعمة.
فكرة السجن
(فرفار) من أول ظهور وهو يخرج هارباً من بيتهم، نراه عاري الصدر، والده يرمي بملابسه في الشارع وعندما يذهب إلى معلمه كي يأخذ أجرته يسرق المعلم جهده كما سرق من قبل طفولته ولطخها بالعار، محكوم على فرفار ورفاقه بالبقاء في هذا الفضاء بما يحتويه من ذكريات مؤلمة، فكرة السجن تكاد تكون من جوهر سينما بوزيد ولهذا نرى الشخصيات تتقلب على صفيح ساخن وتبحث عن مهرب ومخلص فلا تجد سوى الكحول والأزقة، ثم حضن قوادة تفهمهم وتوفر لهم بعض اللذة لكنها صريحة وصادقة حيث تقول لهاشمي (مكانك ليس هنا.. نحن متعودات على النسيان).
الجميع في سجن رغم الجدران المفتوحة وهم يواجهون مصائرهم ويتذوقون الألم والمهانة التي تكبر كل لحظة، صورة الأب تعمق فكرة السجن بطريقة غير مباشرة، يواجه فرفار السب والشتم والطرد وكذلك هاشمي فوالده يوبخه بكلمات مزعجة ثم نراه يضربه بحزام البنطلون عندما يراه عائداً مخموراً، ثم نشاهد لقطة لطيور الحمام في شبكة في حوش بيت هاشمي، يتلذذ بوزيد بتصوير هذه الشبكة وهو لا يصرح بطرق مباشرة ويدعونا للتعايش مع كل دلالة.
قلق وطقوس
بيت الهاشمي يعج بالحركة ويتحول لعالم كبير، ونرى الهاشمي كأننا مع «أورفي» ما وراء المرآة ذلك العالم الميتافيزيقي في فيلم «أورفي» لجان كوكتو، هاشمي لم يخترق جدار المرآة وليس في عالم الحلم، نرى الحركة وطقوس العرس والنساء يحضرن الحلوى والقدور والمنجد والحناء، يسير هاشمي مرتبكاً ليزج بنا في قلق، يصل إلى غرفته كأنه يبحث عن لحظة سلام لكن الوحدة تقذف به لذكريات الألم.
على المائدة نرى هاشمي غير حاضر بعقله ولا يبدو فرحاً بعرسه ويتعرض لهجمة انتقادات من البقية وأشدهم والده، الطعام والمائدة لها حضورها وسنجدها في أغلب أفلام بوزيد وتكون حول المائدة نقاشات وقد يعلو الصراخ وهنا سيترك هاشمي المائدة على صراخ أبوه، الأم هي الأقرب إلى هاشمي ولا تدري ما تفعل، تضطر إلى جلب سيدة عجوز لرقية هاشمي، وفي هذه اللحظة يستدعي نوري بوزيد الطقوس، وفي كل أفلامه اللاحقة وما قبل هذا الفيلم، سنرى البخور والرقية كسفر وتصوير للخيال الشعبي، حيث العين والحسد في وجهة نظر الأم هي من قلبت موازين ولدها.
تصريحات سياسية
العاصفة التي تحطم السقيفة بجوار البيت وتهز الأبواب والنوافذ تأتي كدلالة للغليان الداخلي لهاشمي، العاصفة تهزم جهد الأب في الحفاظ على السقيفة، وتثير الغبار كأنه دخان، المبخرة تحضر كطقس يصاحب مراسم حفل الزواج في أغلب بلدان الشرق، كل شيء يتمزق وينكسر ويتبعثر بسبب العاصفة التي تملك القوة وتتحدى الأب، ولهذا سنشعر بمعاني عديدة فلا يقصد المخرج الشق المادي للعاصفة لكنها كذلك فرصة لجعل هذا العنصر الطبيعي يتظاهر ليخلق المخرج لقطات وصور ليترجم ويعبر عن الواقع الاجتماعي التونسي بشكل عام وما تحيط وتداهمه من عواصف.
من مميزات أفلام نوري بوزيد أنها لا تبلى ونشعر كأنها قراءة نفسية وفلسفية وتحليلات واعية للمجتمع التونسي وهنا نظرة ثاقبة وبعيدة المدى لمشكلات المجتمع وهو يبتعد عن عرض تحليلاته في شكل حوارات أو (منولوج) ويستخدم بذكاء دلالات صورية، مشاهدة خوف الأم يثير الإحساس أن ما يحدث أكثر من عاصفة وكذلك ختم هذا الجزء بالمبخرة وتصاعد البخور يؤكد ذلك، بوزيد لا يقول نصف الحقيقة ويخفي نصفها الثاني لكنه وفي كل أفلامه يلجأ للرموز والدلالات ويمرر تصريحات سياسية خطيرة عبرها.
ضبابية المستقبل
فكرة المغادرة أو الهروب تظل مطروحة للنقاش على مدار طول الشريط، تظل هدفاً وغاية وأمنية رغم العوائق والعراقيل، نسمعها همساً وصراخاً، هي نوع من الحلول لكنها صعبة ومعقدة.
نجد ديناميكية مدهشة تحيلنا من حالة إلى حالة، ونحن في هذا الفيلم مع حكاية تتطور أحداثها بعناصر تشويقية مع دخول شخصيات جديدة، ولكن المخرج لا يهمل أو يتنازل عن اللغة السينمائية ليخلق لوحات جذابة، نلاحظ مدى اهتمامه بالأبواب، إطارات الأبواب المفتوحة أو المغلقة تكون مناسبة لتأطير الشخصية في لقطة متوسطة أو متوسطة قريبة، لخلق كادر أقرب إلى الصورة التشكيلية، كذلك الممرات الضيقة داخل البيت أو في الأزقة سنجدها حاضرة، في أحيان كثيرة يسير فرفار في الأزقة تستقبله الكاميرا، الأزقة معتمة في بعض الأحيان أو تجري الشخصية تلاحقها الكاميرا أو ترصد حركتها.
المدهش كذلك حنين الشخصيات أو سرعة دخولهم لأماكن مغلقة حيث تكون النقاشات المهمة، للمكان الداخلي جماليته الرائعة في سينما بوزيد وهي أماكن ضيقة أكثر منها واسعة، في حال كونها واسعة كما في بيت هاشمي بفيلم ريح السد، سنجد عدة أساليب لتقطيع أوصال الفضاء الواسع، كما سبق ذكره في البداية فكرة السجن يعاد طرحها بأساليب ومناسبات متعددة، الورشة أو المخبز، أو بيت القوادة وحتى الأزقة نجد الكاميرا تتلمس الجدران العارية الخالية من البهرجة أو الألوان المفرحة، لسنا مع بكائيات أو تشاؤم أو كآبة رغم أننا نرى شخصيات يزداد تمزقها كلما تقدمت الأحداث، تقلبات الشخصيات على جمر الواقع والماضي معاً مع ضبابية المستقبل، نحن مع أسئلة جيل بأكمله وليس فقط مع هاشمي وفرفار ومن يرافقهم.
الوجه الإنساني
يركز بوزيد على الوجه الإنساني ويتصفحه، يتأمله وهو لا يخدعنا بإضاءة تخفي ظلال الأنف والرموز، وفي «ريح السد» نحن مع شباب بملامح جميلة ووسيمة وهو يعرض الوجوه دون زخرفة وخداع مكياج مبالغ فيه وهذا نجده في كل أفلامه، قراءة الوجوه كمدخل إلى الأرواح وما يجيش في النفوس من قلق وتمزق، نستنتج وعي نوري بوزيد كسينمائي له قدرات عالمية منذ تجاربه الأولى وحساسيته المبدعة، نحن مع سينما تونسية تخاطب العالم كله… (يتبع)