سعيد شيمى يكتب : عاطف الطيب .. صديقي وحكاياته التي لا يعرفها أحد
28 عاماً مرت سريعة، متعجلة، على رحيل فنان أثرى حياتنا بمتعة المشاهدة لإبداع الفيلم قيمة ومعنى وفنا، وهاهي تأتي ذكري وفاة عاطف الطيب اليوم 23 يونيو، وان كنت قد عملت مع المخرج العظيم فى عديد من الأفلام فى زمن الثمانينات من القرن الماضى، فهذه الأفلام تعد تأريخا للحراك الاجتماعى الذى شهده المجتمع المصرى واستطاعت تغيير الكثير من المفاهيم الأخلاقية والاقتصادية فى المجتمع.
استعيد كثيرا حكاياته معى عن نفسه والتي لا يعرفها أحد، فعندما شاهد الصبى عاطف الطيب السينما والأفلام قال أريد أن أخاطب الناس عن طريق الأفلام وأصنع أحداثا تمر على الشاشة، كان الحلم صغيرا ولكن الله حقق له حلمه والتحق بالمعهد العالى للسينما وتخرج عام 1970 ومر زمن طويل حتى استطاع أن يتواصل مع الناس، وأهله ومجتمعه، وأن يصنع كلاما وصورا وأحداثا من ذهب تملأ وجدان الناس بالمعرفة والقيم والأخلاق وترفض كل ماهو سلبى عفن فى الحياة وتحارب بشراسة قوى الظلم والاستغلال والقهر.
ولد عاطف الطيب فى قرية (الشارنية) بمحافظة سوهاج فى 26 ديسمبر 1947، وكان الأخ الأكبر لأربعة شقيقات وأخ أصغر منه، كان والده مزارعا، ولكنه لايملك طينا، فنزح مع أسرته الى القاهرة، باحثا عن الرزق وسكن فى حى بولاق الدكرور الشعبى الذى تضخم بعد ذلك بشكل عشوائى حين احتوى هجرة أهل الريف للعاصمة، ضم حى بولاق الدكرور الكائن فى الطرف الغربى من النيل، وبعد الحى الحديث وقتها المهندسين، طائفة ضخمة من المصريين الوافدين والباحثين عن فرص أفضل للحياة وكسب العيش، وبالذات بعد قيام ثورة 23 يوليو1952التى عملت على بناء مجتمع صناعى حديث بهدف إزالة الفوارق بين الطبقات الاجتماعية فعملت على مجانية التعليم فى جميع مراحله، ولولا ذلك ماسنحت الفرصة لعاطف الطيب للتعلم والتفوق.
حكى لى عاطف الطيب وكنا نصور بعض المشاهد قرب ميدان الدقى وخلال انتظارنا لأحد الممثلين صحبنى الى أحد المحال القريبة وقال لى هنا كان دكان أبى، فقد ادخر بعض المال وافتتح محلا صغيرا لبيع الألبان، وكنت أساعده فيه وانا صغير، ثم كسدت تجارته جراء التنافس القوى لرأس المال، فانكسرت نفسه وكنت أرثى لحاله، وأساعده بتوزيع الألبان على شقق الزبائن، فقد كنت إبنه الأكبر وكل إخوتى بنات وشقيقى الوحيد أيمن لايزال صغيرا، وحكى لى عاطف عن هذه المرحلة من عمره حين تكون فى داخله تعاطف شديد وتأمل مستمر لحال مجتمعنا، وقال لى: لم أكن أعرف كيف أعبر عن حال هؤلاء المطحونين الذين يمثلون السواد الأعظم من المصريين، ومن هنا كان اختيارى للسينما كوسيلة للتواصل مع الناس.
وخلال خمسة عشر عاما أخرج لنا عاطف الطيب 21 فيلما روائيا طويلا وهى تعد نسبة كبيرة من الأفلام ومن العمل والجهد والفن والقيم يصنعها مخرج مصرى فى وقتها ولكن عاطف كان يستشعر قرب النهاية وعبر عن ذلك فى أحاديثه معى، وترجمها فى عمل متواصل لم يتنازل فيه أبدا عن الاتقان، وكان عنيدا فى عدم التنازل عن أى من شروطه الفنية، مهذب وحنون وعطوف فى حياته الشخصية، كان يدقق فى إختيار موضوعات أفلامه، فقد كانت له رؤية فنيه ومجتمعية وثقافة تحمل عبق الأجداد فى الصعيد، ونسيم هواء التجديد والحداثة والديمقراطية ومحاربة كل ماهو ضد الانسانية.
28 عاماً مضت على رحيل الفارس الفنان عاطف الطيب، استعيد اللحظة القاسية، عندما بلغنى نبأ انتقاله الى رحاب الله فى صباح يوم حزين بعد رجوعى من التصوير تحجرت الدموع فى عينى ولم أستطع البكاء بينما بكت زوجتى بحرقة شديدة فقد جمعتنا صداقة على مستوى الأسرة وكذلك زوجته الراحلة السيدة أشرف، وأذكر أننى فى نهاية عام 1994 سجلت للتليفزيون المصرى عن أمنياتى فى العام الجديد فتمنيت لعاطف الطيب، وكان قد حصل على جائزة أفضل مخرج من مهرجان القاهرة السينمائى عن فيلمه «ليلة ساخنة» فتمنيت له مزيدا من النجاح والصحة، وفى اليوم التالى لوفاته، أى فى 24 يونية 1995 بثت إذاعة الشرق الاوسط برنامجا مسجلا مع عاطف الطيب وسألته المذيعة لو أهديتك مجموعة من العدسات المختلفة ماذا ستفعل بها أجاب: سأهديها لسعيد شيمى لأنه مولع بالعدسات والكاميرات، وهنا انسابت دموعى دون توقف وسكن فؤادى حزن عميق وزاد يقينى أننا فقدنا فارسا سينمائيا نبيلا وأحد فنانى مصر العظماء، أعطى بسخاء وحب، وإذا كان التراب قد وارى جسد عاطف الطيب فانه بقى معنا بأفلامه وسيرته الطيبة ومحبته فى قلوبنا ومنذ 2700 عاما قبل الميلاد قال جدنا الفيلسوف الحكيم «سنب حوتب» من الأسرة الرابعة: (حافة القبر ليست نهاية الوجود، بل هى باب يغلق على الحياة ويفتح على الخلود)، وخلودك ياصديقى عاطف دائم .. فأنت من نبت مصر الأصيلة الصلبة، رحمة الله عليك ياصديقى.