أحداث و تقاريرأهم العناوينسينما مصرية

سينما المعتقلات.. أفلام تعبر عن هوى السلطات الحاكمة

 القاهرة ـ خاص «سينماتوغراف» 

لم تقتحم السينما المصرية عالم الاعتقال السياسي بوضوح إلا في عام 1961، عندما شاهد الجمهور رشدي أباظة وحسن يوسف يتعرضان لتعذيب قاس من قبل البوليسي السياسي في فيلم «في بيتنا رجل» للمخرج هنري بركات.

فلماذا تأخرت السينما المصرية عن خوض هذه المنطقة البالغة الحساسية؟، وكيف نتناول الأفلام التي ناقشت هذه المنطقة الحرجة؟، وما علاقة النظام الحاكم – أي نظام حاكم – بصناعة تلك الأفلام؟.

هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عليها في السطور التالية.

سينما محافظة

منذ النشأة الأولى والسينما المصرية أدركت بغريزتها أنها غير قادرة على مواجهة السلطات، فالبلد رازح تحت نير الاحتلال الإنجليزي، والملك فؤاد – ثم فاروق – غير قادر على مواجهة هذا الاحتلال وتكاليفها الباهظة، لذا جاء أول فيلم مصري روائي (في بلاد توت عنخ آمون/ 1923) للمخرج الإيطالي فيكتور روسيتو خاليا من أي مطبات سياسية، وهكذا ظلت السينما المصرية تبتعد عن السياسة قدر إمكاناتها، وتغرق في بحر العلاقات الاجتماعية وتعقيداتها، وأجواء الغرام وقضاياه الملتهبة، حتى هل عام 1938، فإذا بالسينما تغزو عالم السياسة بقوة وجرأة، صحيح إنها لم تواجه الملك فاروق حاكم البلاد آنذاك، وإنما عادت للوراء ثمانية قرون، كي تنتقد دسائس القصور والصراع على السلطة، وذلك عندما قدم المخرج الألماني فريتز كرامب فيلم «لاشين».

فيلم لاشين

تميزت الأحداث السياسية بالسخونة طوال الأربعينيات، فهناك الحرب العالمية الثانية وغاراتها المرعبة التي وصلت إلى الإسكندرية، وهناك الأحزاب السياسية الرسمية وصراعاتها على السلطة، وهناك المنظمات السرية التي تحارب الإنجليز والملك، وحريق القاهرة في يناير 1952.. ورغم كل هذا الزخم السياسي الذي عاشه المصريون حتى منتصف 1952، إلا أن السينما ظلت بعيدة تماما أو تكاد عن تلك القضايا، ومضت تنهل من قصور الباشوات أو حواري البسطاء موضوعات اجتماعية بسيطة لا علاقة لها بما يجري خارج قاعات العرض من أحداث جسام.

في بيتنا رجل

بعد ثورة 23 يوليو 1952 بدأت السينما تتعرض للملك فاروق وتصفه بالطاغية (يسقط الطاغية)، نتذكر هتاف الجماهير في «رد قلبي/ 1957»، فقد باتت لا تخشى شيئا فالنظام الجديد طرد الملك، وأسقط نظامه، كما تجرأت السينما على فضح جرائم الاحتلال الإنجليزي بعد 6 أشهر فقط على قيام الثورة، فقد عرض فيلم «مصطفى كامل» و«يسقط الاستعمار» في نهاية عام 1952، وهما فيلمان ينتقدان بشدة احتلال مصر من قبل بريطانيا.

في بيتنا رجل 2

لا يغيب عن فطنة اللبيب أن أي نظام جديد يسعى إلى تشويه النظام الذي سبقه، وإلا ما تمتع بشرعية وجوده، وهكذا شاهد الجمهور عدة أفلام مهمة بدءا من 1955 تكيل الذم للنظام الملكي بشكل عام من أشهرها «الله معنا/ 1955» لأحمد بدرخان، و«رد قلبي/ 1957» لعز الدين ذو الفقار، ثم مضت أمور السينما كما هي تنشغل بالقضايا الاجتماعبة، ولا تقرب السياسة إلا فيما ندر، حتى أقدم المخرج بركات على تحقيق رواية إحسان عبد القدوس «في بيتنا رجل» عام 1961، وهو أول فيلم يتعرض لموضوع الاعتقال السياسي بوضوح.

في هذا الفيلم شاهدنا التعذيب الذي يتعرض له كل من رشدي أباظة وحسن يوسف من قبل جهاز البوليس السياسي (أمن الدولة، ثم الأمن الوطني فيما بعد)، أي أن الذي يعتقل ويعذّب ليست سلطات الاحتلال كما في أفلام سابقة، وإنما السلطات المحلية، لكن تذكر دومًا أن هذا الفيلم أنتج في عز مجد عبد الناصر، لذا يدين بشدة تصرفات البوليس السياسي في زمن الملك فاروق.

شيء من الخوف

شيء من الخوف وغروب وشروق

ويمكن رصد عدد من الأفلام في هذا الاتجاه منها، «غروب وشروق» عرض في 26 مارس 1970، أي قبل وفاة عبد الناصر بنحو ستة أشهر فقط، وهو فيلم يفضح التعذيب في عهد الملك فاروق، فلماذا أقدمت السينما على إنجاز فيلم كهذا في ذلك الوقت، والزمن قد طال بالعهد الملكي حتى صار في الغياب؟، أغلب الظن أن الضجة التي أثارها عرض فيلم «شيء من الخوف/ 3 فبراير 1969» هي السبب، فهذا الفيلم يتهم عبد الناصر – بشكل رمزي – أنه رئيس عصابة مثل عتريس يقهر الناس ويقتلهم، ويبدو أنه لقى صدى طيبا عند قطاع كبير من المواطنين، الأمر الذي دفع صناع السينما – بإيعاز من الدولة – إلى تحقيق فيلم «غروب وشروق» ليذكر الناس بمصائب العهد الملكي، ولا تنس أن من كتب قصة «غروب وشروق» هو جمال حماد أحد الضباط الأحرار!

الكرنك 1

الكرنك وأخواته

كالعادة كلما جاء حاكم جديد انبرى صناع السينما في كيل المديح لعهده من خلال إدانة العهد الذي سبقه، وإذا كانت السينما المصرية قد تطورت مع الأيام واقتحمت عالم السياسة في عهد عبد الناصر، فإنها في زمن السادات خطت خطوات كبرى لتقدم إسلاما سياسية صرف.

لقد وجد الرئيس السادات نفسه في مأزق تاريخي، فعبد الناصر استحوذ على قلوب الملايين، وجنازته المهيبة تؤكد ذلك، ولأن السادات قرر السير سياسيا واقتصاديا واجتماعيا عكس الاتجاه الذي سار فيه الزعيم، فلا عدالة الجتماعية ولا انحياز للفقراء، ولا مقاومة استعمار ولا تصنيع ولا أي شيء مما أنجزه عبد الناصر… لذا كانت المهمة صعبة أمامه للغاية حتى يقتلع  اسم ناصر من قلوب الملايين ويستخف بإنجازاته.

هنا يأتي دور السينما الجبّار والمذهل في إعادة تشكيل الوعي السياسي والضمير الفني لدى الملايين، فهي الوسيلة المدهشة التي تستطيع تدمير – أو الاحتفاء – أي شخص، وهكذا لم يجد السادات ورجاله سوى تشويه صورة البطل في عيون الناس من خلال السينما، حتى يتسنى له تمرير سياساته التي تتعارض كليا مع سياسات سلفه، وليس أمضى من سلاح التعذيب يشهره صناع السينما في وجه من يريدون تحطيمه!

احنا بتوع الاتوبيس

في عام 1975 أنجز علي بدرخان فيلمه الشهير «الكرنك» مفتتحا بذلك سلسلة أفلام عن التعذيب والاعتقال في زمن عبد الناصر، والهدف منها بالأساس هو محق الصورة الناصعة للزعيم القديم، وإرضاء الرئيس الجديد، وقد حشد لهذا الفيلم كوكبة من نجوم السينما تتصدرهم سعاد حسني وفريد شوقي وكمال الشناوي ونور الشريف وصلاح ذو الفقار وشويكار وتحية كاريوكا، وقد سمعت بنفسي فريد شوقي في حوار إذاعي قبل سنوات طويلة ينتقد نفسه لأنه شارك في فيلم يهدف في المقام الاول إلى تشويه صورة عبد الناصر وقال بالحرف (غلطة ولن تتكرر)، ومن المعروف أن فريد شوقي كان منحازا لعبد الناصر، وأطلق على شركة الإنتاج التي أسسها بعد الثورة اسم (العهد الجديد) تيمنا بما أنجزه الضباط الأحرار، كما أن فريد شوقي أنتج فيلم «بورسعيد» وقام ببطولته بإيعاز من عبد الناصر نفسه!

وراء الشمس

النجاح الكبير الذي حققه «الكرنك» أغرى المنتجين والمخرجين على الخوض في غمار التعذيب في زمن عبد الناصر حتى ينالوا بركة السلطات الحاكمة، علما بأن هذا النجاح ينهض في المقام الأول على الإلحاح على عرض الفيلم في التلفزيون حتى تترسخ صورة الزعيم المجرم في عقول المشاهدين وقلوبهم، وهو ما نجح فيه إعلام السادات بحق، وكل من ينتقد ثورة يوليو الآن، خاصة من الشباب يتكئ في هجومه على ما شاهده من تعذيب في فيلم «الكرنك».

المهم توالت أفلام الاعتقال والتعذيب فحقق محمد راضي «وراء الشمس/ 1978»، وأنجز حسين كمال «احنا بتوع الأوتوبيس 1979»، وإن كانا لم يحققا الدوي نفسه الذي حققه (الكرنك).

احنا بتوع الاتوبيس 2

بقي أن نسترجع الفيلم الوحيد الذي عرض في عهد السادات وتناول الاعتقال والتعذيب في زمن الملك فاروق وهو «ليل وقضبان/ 1973» لأشرف فهمي، وإن كان التعذيب في هذا الفيلم يطال مجموعة من المساجين العاديين وليس السياسيين!

الخلاصة

باختصار.. السينما أداة من أدوات الدولة يمكن أن توجهها إلى ما يخدم مصالح السلطات الحاكمة إذا اقتضت الضرورة ذلك، حتى وإن كان بشكل غير مباشر، خاصة في بلدان العالم الثالث، لذا لا غرابة في أن كل الأفلام المصرية التي تناولت قضايا الاعتقال والتعذيب التي حدثت في عهد حاكم معين، تم إنتاجها وصناعتها بعد خروج هذا الحاكم من السلطة سواء بالطرد (الملك فاروق/ حسني مبارك) أو الموت (عبد الناصر والسادات)، الأمر الذي يجعلنا نتعامل بحذر مع نوعية هذه الأفلام، لأنها تحمل رسائل مسمومة بمعنى ما.

وراء الشمس 2

أرجو ألا تظن أن حكام مصر كانوا ملائكة، فهذا غير صحيح بالمرة، فكل واحد منهم – بشكل أو آخر – أوعز لأجهزته الأمنية بمعاقبة معارضيه والتضييق عليهم، وهو أمر مفهوم ويحدث طوال التاريخ، لكن الفيصل في نجاح أي حاكم هو مقدرته على تحقيق مصالح الأغلبية الفقيرة من شعبه، حتى لو اضطر إلى شكم الأغنياء ومحاسبتهم بقسوة.

اللافت أيضا أن معظم الأفلام التي تناولت التعذيب والاعتقال كانت رديئة فنيا، الأمر الذي يؤكد أن التوجيهات لا تصنع فنا جيدا في الأغلب، ويبقى أهم وأجمل فيلمين تعرضا لهذه القضية هما «في بيتنا رجل»، و«غروب وشروق»، لانهما صنعا بصدق فني حقيقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى