المهرجانات العربية

«شبابيك الجنة».. الفقد بين الاعتيادية والزخم

في أيام قرطاج السينمائية

 تونس ـ «سينماتوغراف»: أحمد شوقي

أحد أهم النقاط الإيجابية في أيام قرطاج السينمائية، بشكل عام وليس في دورتها السادسة والعشرين المقامة حالياً، هي تلك العلاقة الوثيقة التي تربط السينمائيين التونسيين بمهرجانهم. الجميع يعتز بالمهرجان، وكل مخرج يطمح في عرض فيلمه من خلال نافذة قرطاج، سواء في المسابقات الرسمية أو خارجها، والمهرجان بدوره يفرد مساحة كبيرة للأفلام التونسية، فينظم لمن لم يجد طريقه لإحدى المسابقات، بانوراما تعرض مزيجاً من الأفلام الوطنية الطويلة والقصيرة، كوجبة مكثفة يقدمها قرطاج لضيوفه الراغبين في التعرف على جديد السينما التونسية، وكذلك لجمهوره الذي يحضر أفلام بلده بكثافة ربما تفوق الإقبال على معظم عروض المهرجان.

في دورة هذا العام تنوعت الأفلام التونسية المشاركة، وفي مسابقة المهرجان الرسمية مُثّلت تونس بثلاثة أفلام هي «على حلة عيني» لليلى بوزيد، «شبابيك الجنة» لفراس نعناع، و«قصر الدهشة» لمختار العجيمي. عدد مُرضي للسينمائيين التونسيين الذي ثاروا في دورة العام الماضي لاقتصار تمثيل بلدهم على فيلم واحد في المسابقة الرسمية. فيلمين من الثلاثة أعمال أولى لمخرجيها، هما فيلمي ليلى بوزيد وفارس نعناع، المخرجان اللذان قدما أوراق اعتمادهما كصانعي سينما واعدين، سنتناول في هذا المقال أحدهما.

مرارة الفقد وتقليديته

«شبابيك الجنة» يبدأ بتأسيس علاقة زوجية متينة، تقوم على الحب بين زوجين شابين هما سامي وسارة (يجسدهما لطفي العبدلي وأنيسة داود بإتقان عالٍ وتفهم للغة جسد الشخصيات في مختلف المراحل التي تمر بها)، يعيشيان مع ابنتهما الوحيدة، وخلافهما الوحيد هو إذا ما كانت اللحظة مناسبة لإنجاب طفل آخر أم لا. لكن كل هذا ينقلب رأساً على عقب عندما تموت الابنة فجأة، في حدث تم التمهيد له بمشهد افتتاحي موحي بالخطر ولوم الذات، فالوالدان ينشغلان في أحاديث مع أصدقاءهما خلال غذاء على البحر، وعندما تشعر الطفلة بالملل وتطلب العودة للمنزل، يدعوها الأب للعب على الشاطئ حتى ينهيان جلستهما، وهناك ربما يقع الحادث الذي لا نراه أبدا على الشاشة وإن انخرطنا في آثاره على الأب والأم.شبابيك-الجنة-2

لاحظ أن الفيلم لا يصرح بأن الطفلة ماتت على الشاطئ لككننا نفهم هذا ضمناً، وأن فقد الابنة وهي على بعد أمتار من الوالدين هو وحده أمر صادم ومخيف، فما بالك عندما تكون العلاقة الكلامية الوحيدة التي رأيناها مع الطفلة هو دعوتها للذهاب إلى حتفها؟ الدعوة التي تقدم مبرراً منطقياً لما يدخله الأب سامي من انهيار كامل، كراهية للعالم والذات وإدمان للكحول وصولاً إلى العجز الجنسي، فأطياف ذكريات الفقيدة والشعور بالذنب حيالها تسيطر على الزوج وتجعله غير قادر على مواصلة الحياة، بينما تحاول الأم ظاهرياً أن تبدو أكثر تماسكاً.

النصف الأول من الفيلم يتمحور حول هذا الفقد المؤلم، وهو نصف جيد الصياغة بشكل عام في الكتابة والإخراج والتمثيل، وإن شابه رتابة سببها أن الحبكة وتبعاتها شوهدت من قبل عديد المرات. تتابع انحدار البطل المتسارع باهتمام وإعجاب بالأداء التمثيلي، لكنك تبحث عن مفاجأة ما أو مصدر للدهشة فلا تجد سوى تبعات تقليدية يسهل توقعها من قبل أي مشاهد متمرس.

النصف الأكثر زخماً

الفيلم يتخلص من الاعتيادية عندما يقع الانقلاب الدرامي الأهم، وهو معرفة سامي أنه ابن غير شرعي، تم قيده في الأوراق الحكومية باسم رجل آخر، بينما والده الحقيقي لا يزال حياً، وهو يحتضر حالياً ويرغب في مقابلة الابن الذي لم يره من قبل. اللحظة التي تربك حسابات مرتبكة سلفاً، ليس لظهور حقيقة تكوينية لا يعرفها البطل عن نفسه (فالمخرج لا يتوقف طويلاً عند مفاجأة الاكتشاف)، ولكن لأنه يدرك أن عليه بعد فقدان ابنته، أن يعيد نفس التجربة بشكل ما مع والده.

رحلة إلى جذور لا يعرفها يخوضها الرجل، للتعرف على موطنه أولاً ووالده ثانياً، ثم تهيئة نفسه لفراق هذا الأب الذي لم ولن ينال فرصة معرفته. نظرياً، قد يكون هذا طريقاً لمواصلة التردي، لكن عملياً تساعد رحلة الماضي سامي على التطهر، ربما لأنه تصالح مع ما يفترض أن يشعر به والده من ذنب تجاهه، فمن الطبيعي أن تتصالح ابنته مع إهماله في حقها، أو لأن اكتشاف الجذور ثم فقدها سريعاً هو اشتباك فعلي مع التناقض بين عبثية الحياة وضرورة التعايش معها، وهو بالضبط ما احتاجه سامي كي يصل لنقطة اتزام يستعيد من خلالها حياته.

«شبابيك الجنة» تجربة أولى جادة وجيدة، تكشف عن مخرج قادر على بناء دراماً نفسية متصاعدة درامياً، متقنة إخراجياً، ومحكمة على مستوى توجيه الممثل، وعن موهبة تمثيلية كبيرة ومتطورة هي بطل الفيلم وسام العبدلي، الذي أشاد به معظم من شاهدوا الفيلم خلال أيام قرطاج السينمائية السادسة والعشرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى