مراجعات فيلمية

«شباب».. عن شيب الأرواح وصِباها

«سينماتوغراف» ـ إسراء إمام

جلس الممثل الشاب، قبالة المُخرج المُسن. موضحا له لماذا تخلى عن القيام بدور “هتلر”، مُعترفا بكونه قد تأثر الأيام الماضية، بشُحنة مُحرضة من المشاعر، حملته على إحترام ثقافة الرغبة، والتنحى عن ثقافة الرعب. قائلا “سأروى رغبتى، نقية جدا، مستحيلة جدا، وفاسدة جدا لأن هذا بالضبط ما يجعلنا على قيد الحياة”. فى المشهد التالى مباشرة، نجد رجلا متأملا قد تجاوز جلسته على الأرض، وتبدو وكأنه مُتربعا على الهواء. هو ذاته الرجل الذى قد تحاكت شخصيات الفيلم منذ بدايته عن قدراته بخصوص الجلوس على الهواء، والذى دوما تشكك فيه البطل، بل واتهمه فى وجهه بالعجز عن فعل ذلك.

هل التعلية من شأن رغباتنا، يمكن أن ترفعنا فوق أنفسنا، تجعلنا أخف من مخاوفنا، آلامنا، دواخلنا السوداء الكاحلة، ومساحاتنا الرمادية الباهتة؟!

هذا هو “باولو سورينتينو” المُخرج الذى حينما يصنع فيلما، يَمِده كمنطقة فسيحة جميلة وبَرِحة، ولكنها أيضا ملغومة بعدد من الأسئلة، وبضع من الإجابات. يضع كل منهما فى متوالية منغلقة، تزاول الإلتفاف حول نفسها، أسئلتها تشير بِرُبع إصبع إلى الإجابات، وإجاباتها توشى بأسئلة أخرى.

سورينتينو الفِكر

“باولو سورينتينو” المخرج الذى يحكى فى صمت، يصنع الصورة لتنوب عنه، وعن ما يجيش بصدر شخصياته. يخلق لهم عالما من واقع، ويعيث فيه خيالا. ينطق على لسانهم بكلمات حكيمة، تزداد عبثا وعدمية. أنت مع “سورسينتينو” لا تستقر على معنى، على مفهوم. الجُملة المؤكدة فى حوار أفلامه، لا تتورع نفى نفسها، وهو جَل الإيمان، فهو من المخرجين الذين قد يهشوا كل زخم أفكارهم من حولك فجأة، بعد أن ثابروا فى حملك على الإعتقاد بها، لصالح فكرة واحدة تجبرك على الإنتماء إلى فِكرك الخاص. فهو يبتعد بك، حتى يُعيدك إليك.

youth 3

فى (youth أو شباب) الذي عرض ضمن برنامج “سينما العالم” في مهرجان دبي السينمائي، كل أبطال “سورينتينو” مرتبكين، مشوشين. مع نهاية الفيلم، ستكتشف كم كانت معتقدات كل منهم خاطئة بتطرف. المايسترو العبقرى يكتشف أنه مجرد أحمق هارب من واقعه وعمله، بإسم الوفاء لزوجته التى لم تعد تقوى على الغناء. وابنة المايسترو، تتحرى الدقة بشأن انطباعها الذى استمر سنوات بشأن والدها، وترى فيه حنوا قد أنكرته عليه طوال عمرها. المُخرج الشهير يتزعزع إيمانه بنفسه لدرجة تحمله على الإنتحار، لأن بطلته المفضلة قد اتهمته بالفشل. والممثل الشاب، يكف عن تنكره لدوره الشهير، ويتخلى عن دور هتلر لأنه قرر ألا يُثقل ذاته بمزيد من مشاعر التعقيد والرعب. على الرغم من شكوته التى كانت منذ بداية الفيلم، عن احتياجه لدور جاد يدير الرؤوس عن دوره التافه المحبوب، والذى لا يتذكره الناس إلا به. اجتهد “سورينتينو” فى أن يجعلك تؤمن بهم، ومن ثم سعى بإتقان لكى يهدم كل ما عرفته بشأنهم. والحقيقة أن الوقت ما بين الشعورين، كان كافيا جدا لأن تراقب نفسك معهم، وتبقى قريبا منها، متنصتا لما تمليه عليك.

من الصبى؟ ومن الشاب؟

فريد بالينجر “مايكل كين” المايسترو الذى تقاعد، تضامنا مع زوجته التى فقدت قدرتها على الغناء. يتمادى فى إقناع نفسه بأنه لم يحب الحياة قط، يقضى عطلته فى صمت، ويفسح من بعدها للروتين أن يعود إلى حياته. تخلى عن كل شىء، فتخلى كل شىء عنه. لم يحاول حتى تصحيح صورته القاسية، التى انطبعت فى ذهن ابنته عنه، يتألم فى الخفاء، ويُقنع صديقه أن المعضلة الوحيدة التى بقت تؤرقه إلى الآن ندمه حيال عدم إقامة علاقة جنسية قوية مع المرأة التى أحبها يوما. يدعى على نفسه قبل غيره أنه مريضا، قليل الحيلة. ليهرب من مسئولياته تجاه فنه من جهة، وليتضامن مع آلام صديقه المُقرب من جهة أخرى.

فريد بالينجر صبي قرر لفترة أن يشيخ بإرادته.

 تماما كـ جيمى ترى “باول دانو”، الممثل الشاب الذى يختار فندقا استشفائيا مكتظا بالعواجيز ليقضى عطلته، والذى يصيبه الحنق كلما دنا منه أحد الجمهور ليبدى له إعجابه بدوره فى فيلما تجاريا، قدم فيه دورا لرجل آلى. يجد فى بداية الفيلم تشابه ما بينه وبين فريد بالينجر، يراهما مبدعان لا يفيهما الجمهور حقهما الواجب، فلا يثنى إلا على الدور التافه للأول، ولا يتذكر للثانى إلا مقطوعة وحيدة شهيرة. ما ظنه جيمى كان صحيحا، فهو وبالينجر نسختان متطابقتان ولكن فى الشيب.

youth 2

أما ميك بويل “هارفى كيتيل”، فهو الرجل المُثقل ببدنه السقيم، والذى يضطره للوقوف دقائق طويلة لكى يدفع ثمن أدويته فى الصيدلية. ولكنه رغما عن أنف كل شىء، يدفس نفسه وسط مجموعة من الشباب ليكتب معهم سيناريو الفيلم المُقبل على إخراجه. ميك، يأمل دوما أن الزوجين الصامتين فى قاعة الطعام، سيتحدثا يوما ما، على العكس من يقين صاحبه فريد بأن ذلك لن يحدث أبدا. والحقيقة أن تنبأ ميك سيغدو الأصح بعد ذلك، حيث أنهما سيضبطا العجوزين وهم فى ذروة علاقة جنسية قوية فى منتصف الغابات. ميك، يُبجل بطلة معظم أفلامه بريندا مورال “جين فوندا”، يثق فيها، ويضمر لها إحتراما وتقديرا، يراها عظيمة صادقة. سنوات طوال وهو يُرسِخ هذه الصورة القيمة لبريندا فى ذهنه وتكوينه. وإذا بهذه الحمقاء الوقحة تزوره فى مكان عطلته، وتتفوه بوجهه فى كل بساطة بأنه لم الآن لم يتعدى مجرد فاشل حالِم. كل تاريخ ميك فى المعافرة، والمقاومة ينتهى عند هذه النقطة، فبغض النظر عن صحة حديث بريندا من عدمه، فهو قد ضرب عزيمة ميك فى مقتل، حطم ساقيه، ولم يترك له خيارا آخر إلا الهاوية. فقديسته التى طالما آمن بها فى عمره الذى مضى، تجبره الآن أن يكف عن الاعتقاد بها، حتى ينقذ نفسه. وفى النهاية، لم يُفضل ميك نفسه عليها، خلع لها القبعة، هى وحدها من بين خيالات بطلاته، ودفع عنها كلمات تلميذه الحانق منها قائلا “لا تتحدث عن بريندا بهذا الشكل”.. وانتحر.

ميك بويل الصبي الذى قتل نفسه قبل أن يتكمن الشيب منه.

ولينا بلينجر “رايتشيل فايز” صبية شيخة كأبيها، حبست نفسها لأعوام فى قفص زوجها. ولم تشتم عبق الحرية إلا بعد أن قرر هو إطلاق سراحها. ما إن تصالحت مع نفسها، استطاعت أن ترى كل شىء من حولها بمنظور أصدق. تبدلت فى طرفة عين، فلم تعد تلك المرأة الرثة الملابس، المحايدة الطلة، وإنما تلك السيدة التى تتألق تحت نظرات الرجال المتدلية من خلفها. أضحت المرأة التى يضع “سورينتينو” على خطوات مشيتها أغنية شبابية صاخبة ومثيرة.

لينا بلينجر الشيخة التى لم تستغرق الكثير من الوقت حتى تعود لصباها.

سورينتينو الصورة

يفرط هذا المخرج المُلهِم فى الاعتناء بصورة فيلمه، بالدرجة التى لا تتفلسف على معناه، ومن دون تشويش أو تباهى فارغ. يكن متواجدا ليخلق لنا صورة أسطورية حينما يتطلب الأمر، ولا مانع أيضا من إضفاء بعض الرؤى الرمزية. ولكن كل شىء يبقى فى سياقه، ولا يحتمل أكثر من وقته، فيبقى قيم بديع يسر الناظرين.

فهذه المتواليات البصرية التى تعمد أن يضعها كفواصل للمشاهد، يمكن اعتبارها عملا فنيا مستقلا، إضافة إلى أننا لا يمكن أن نغفل دورها كبطاقة تعريفية بطبيعة المكان الذى يتجمع فيه الأبطال. هذا الفندق الإستشفائى، الذى يصطف فيه العاملون الصبية ليراقبون ويخدمون العَجزة. ف “سورينتينو” لم يفوت فرصة، إلا وخلق فيها كادرا موحيا، وآخر يقطر جمالا. حتى اسم الفيلم كُتِب فوق تكوينا تشكيليا عظيما.

youth 5

يمكننا أيضا أن نتأمل هذا التماهى فى صناعة صورة الحلم الذى يراود فريد فى المشاهد الأولى، حينما يقابل ملكة جمال العالم، على الخط المحفوف بالمياه من الجانبين، ومن ثم تزيحه الأخيرة عن طريقها، وتولى عنه بعيدا، وكأنها شبابه الذى يخاصمه ويسير فى الإتجاه المغاير. معنى الصورة هنا، لم يطغى على فخامتها، وعبقها الراقى المخبوء بين أضواء الممكان الفسيح الباهظة، والمنعكسة بألق على صفحات المياه.

الكادر الخبيث الذى يُمّهد لمشهد مواجهة بريندا وميك، والذى يلتقطهما من على مبعدة من خلف شبكة طاولة البينج بينج، وكأن المباراة بينهما ستبدأ للتو.

آخر كلمتين:

_ الحوار عند “سورينتينو” فقرات ذهبية، يمكن أن تقتطع معمها لتسجله فى مفكرتك مدخرا إياه لوقت لاحق.

_ يمكن كتابة مقالة إضافية، عن الطريقة التى لجأ إليها “سورينتينو” لتوظيف الأغانى محل الموسيقى التصويرية، أو دمج مشهدين فوق تراك موسيقى واحد. مثلا (دمج مشهدى “جلوس الرجل الحكيم على الهواء، ومشهد “دخول ملكة جمال العالم المسبح عارية”، فوق التراك الموسيقى الحماسى ذاته).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى