إضاءات

«شجرة فادية».. شهادة وثائقية بصرية ترصد مأساة لاجئة فلسطينية

«سينماتوغراف» ـ يوسف الشايب

بالتأكيد لم يكن الفنان الراحل “أبو عرب”، قد التقى باللاجئة الفلسطينية فادية لوباني في مخيم برج البراجنة بلبنان، أو بالمخرجة البريطانية سارة بدينغتون، حين غنّى رائعته “يا توتة الدار”، وإن كانت الأغنية بكلماتها وما تحويه من مشاعر جيّاشة تصلح لأن تكون مختصراً لحكايتها.

وقامت بدينغتون، وعلى مدار 15 عاماً، حين التقت مصادفة في بيروت بفادية، بالبحث عن شجرة التوت في قرية “سعسع” المهجرة، وهي الرحلة الممتدة التي وثقتها في فيلمها “شجرة فادية”، وعرض في مهرجان أيام فلسطين السينمائية، كواحد من سبعة أفلام تنافست على جائزة “طائر الشمس الفلسطيني للأفلام الوثائقية“.

في الرحلة الطويلة، وعلى امتداد جغرافيات عدّة، وتحولّات على مستوى الشكل الخارجي لفادية والمحيطين بها، كما المخرجة التي لم تظهر في أي مشهد، لكنها تغيّرت هي الأخرى على أكثر من صعيد، بينها، كما أشارت لي، تحوّلها إلى ناشطة مدافعة عن عدالة القضية الفلسطينية وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم.

لقطة من الفيلم

لا ترافق سارة اللاجئة في حلمها بالبحث عن شجرة التوت القريبة من منزل جدها فحسب، بل ترافق رحلة الطيور على تصنيفاتها المختلفة على صعيد بيولوجي وعلى صعيد الهوية والتجنيس، كما ترافق إصرار فادية على وجود الشجرة، بإصرار أكبر بالبحث عنها، وهو أمر يفك طلاسمه العم الضرير، ولم يكن ضريراً حيث تم تهجيره والآخرين من أفراد العائلة والبلدة في العام 1948، وكان في الثامنة من عمره حينها.

وعلى الرغم من أن بدينغتون هي بالأساس فنانة بصرية، وتنحاز إذا ما أرادت الغوص في عالم السينما إلى الروائي، إلا أن شغفاً ما، كما أشارت كان يقودها نحو ذلك التحدي الذي أطلقته فادية ذات مرّة، بالعثور على الشجرة، التي هي هوية فادية، وشهادة “الطابو” الخاصة بها في “سعسع”، بعد أن قادتنا المشاهد الأخيرة إلى أنها الوحيدة الباقية، حمراء الثمار.

بقيت “التوتة”، في حين أن لا منازل في المشهد العام للجغرافيا المحيطة بها.. محض حجارة متناثرة، كانت ما كانت، لمن باتوا يعيشون في ظروف مأساوية داخل أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الثمانية والخمسين في جغرافيّات العالم، وهو ذات عدد نجوم السماء التي ترشد البحارة وقادة الطائرات كما الطيور المهاجرة أيضاً، في مفارقة من بين مفارقات عدّة معلوماتيّاً وبصرياً أبدعت سارة في تقديمها عبر فيلمها الملحمي هذا.

المخرجة البريطانية سارة بدينغتون

لم يكن الفيلم مجرد شهادة بصرية مهمة لجهة نقل قضية اللاجئين دولياً، بل فيلم حقيقي لم يتنازل عن فنيّاته لصالح المضمون، بحيث خلقت المخرجة البريطانية توازناً نادراً، وكأنها لاعبة سيرك.. لقد نجحت في العبور بنا إلى حيث دواخل الشخصيات، فاغري الأفواه من تلك المشهديات المبهرة، ما بين انعكاسات الضوء والظل، فبلاط الأرض تارة، وغابة أسلاك الكهرباء تارة أخرى، والسماء الرحبة بكل ما تحمله من طيور وطائرات قاتلة، بدت كلها مرايا عاكسة تكمل الحكاية التي لم تبدأ مع فادية، ولن تنتهي قبل عودتها أو أي من أحفادها، الجيل الخامس للنكبة، إلى “سعسع”، حيث “توتة الدار”، أو “شجرة فادية”، عنوان الفيلم الذي يمكن وصفه، ودون تردد، بقطعة فنيّة ساحرة.

ملصق الفيلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى