«شكل الماء».. الحب في زمن الحرب الباردة
ـ ابراهيم حاج عبدي
تربع فيلم «شكل الماء ـ ذا شيب أوف ووتر» على عرش جوائز أوسكار 2018 بانتزاعه أربعة جوائز منها أرفع جائزتين وهما جائزة «أفضل فيلم»، وجائزة «أفضل إخراج»، والتي ذهبت لمخرجه غييرمو دل تورو.
ويعود المخرج السينمائي المكسيكي غييرمو دل تورو، في فيلمه «شكل الماء»، إلى ثيمته السينمائية المفضلة التي تمزج بين الفانتازيا والرعب والخيال العلمي والتي تجسدت في أفلام سابقة له مثل: «العمود الفقري للشيطان»، و«متاهة بان»، و«فتى الجحيم»، وسواها.
وهو، إذ يتكئ على هذه الثيمة، لا يغرق في تلك العوالم الفانتازية الموحشة والمظلمة، وإنما يستخلص منها حكاية تكاد تكون واقعية لفرط ألفتها، فهو يغلفها بفيض من المشاعر الإنسانية التي تتدفق بسلاسة، بأنْ يصعب أن تحذف لقطة واحدة من الفيلم الذي نال، من قبلُ، جائزتي غولدن غلوب والبافتا البريطانية لأفضل إخراج، وكان سبق له الفوز، كذلك، بـ«الأسد الذهبي» في مهرجان فينيسيا الأخير.
«شكل الماء»، الذي كان مرشحًا لـ 13 جائزة أوسكار، يستعرض قصة حب استثنائية تنشأ بين عاملة تنظيف بكماء وبين كائن برمائي غريب الشكل، جلب من غابات الأمازون بهدف إجراء تجارب علمية عليه في منشأة للبحث الفضائي بأميركا.
يعود زمن أحداث الفيلم، إلى حقبة «الحرب الباردة»، مطلع ستينيات القرن الماضي، عندما كان الصراع محتدمًا بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة على مختلف المستويات، وخصوصًا في مجالي التسلح وغزو الفضاء، غير أن هذا المصطلح السياسي الذي شاع في النصف الثاني من القرن المنصرم، لا يتجلى في الفيلم إلا كخلفية ثانوية، هامشية، ذلك أن «دل تورو» لا ينشغل بالقضايا الكبرى بقدر انهماكه بعزلة الكائن البشري وهشاشته إزاء ألغاز الكون.
بطلة الفيلم أليزا اوسبوسيتو (تؤدي دورها سالي هاوكينز)، تعبر، بالضبط عن تلك الهشاشة، فهي فتاة نحيفة تعيش في وحدة قاتلة، تفتقر إلى الجمال، وعلاوة على ذلك تعاني الخرس. لكن قلبها طافح بالوجد والعاطفة. تتوق الفتاة الصامتة إلى شريك تتقاسم معه هواء البهجة الغائبة وتستمد منه القوة لمجابهة واقعها المرير والرتيب، فليس في حياتها سوى شخصين: زميلتها في العمل زيلدا فولر (اوكتافيا سبنسر)، وجارها الرسام المسن، الذي لا يعترف أحد بموهبته، جيلز (ريتشارد جينكنيز).
وسط هذا الحرمان والروتين الممل، تجد البطلة ضالتها في ذلك الكائن الأسطوري الغريب المهمش، بدوره، في حوض الماء في تلك المنشأة البحثية التي تعمل فيها البطلة التي تستميت في حمايته والدفاع عنه، بينما ينظر إليه موظفو المنشأة على أنه حقل للتجارب فحسب، في حين يتجسس فريق روسي ويتابع أخبار هذا المخلوق الغريب بهدف سرقته أو حقنه بإبرة سامة عبر عميل له يعمل في المنشأة، وهو ما يعيد إلى الأذهان شيئًا من «المكارثية» التي لا يفصح عنها هذا الشريط على نحو واضح.
ورغم شكل الكائن المخيف وصوته المرعب (أدى دوره دوغ جونز)، والذي بدا وكأنه سقط من كوكب مجهول، إلا أن مجريات الفيلم تظهره كضحية لقسوة الإنسان المتحضر الذي يسعى لاستغلاله بالبحث والدراسة، ولكن حين يلقى اهتمامًا من الموظفة يتحول إلى كائن رقيق ودود على عكس ملامحه وهيئته المخيفة.
ينجح «دل تورو» في سرد هذه الخلطة السينمائية بأسلوب تشويقي جذاب، مستعينًا برؤى سينمائية عدة تتكثف لتنتج البصمة الخاصة للمخرج الذي لا يتوه عن المنحى الرئيس لفيلمه الذي يتناول «الحب والخسارة» بين كائنين هشين ينتهي بهما المطاف مقتولين كنهاية حتمية لهما لتمردهما على جشع الأفراد وتراتيبية المجتمع الأمريكي، فكيف لفتاة خرساء أن تقترف ذنب الحب مع كائن خرافي لا وظيفة له، في عرف النخبة، سوى إثبات التفوق الأمريكي؟. لعل الموت في هذه الحالة هو السبيل الوحيد لبقاء ذلك الحب نقيًا في زرقة مياه المحيط حيث تسبح جثة العاشقين في عناق أبدي مع نهاية الفيلم.
يكتب «دل تورو»،عادة، قصص أفلامه، كما في هذا الفيلم الذي ينتمي إلى «سينما المؤلف»، وأسهم في كتابة السيناريو له فانيسا تايلور. ومن الواضح أنه حين يكتب، فكأنما يكتب بعدسة الكاميرا لا بالقلم، ومن هنا تأتي لغته البصرية غنية، زاخرة بتلك المفردات السينمائية التي تمزج بين الرومانسية والآكشن، بين أفلام الجاسوسية والخيال العلمي مع مسحة من الشاعرية تتجلى في مشاهد عدة، كمشهد المطر حين تسند أليزا رأسها إلى زجاج النافدة في الحافلة بينما يتساقط المطر لتغدو حباته مع اللقطة المقربة ككرات سحرية ملونة، وكذلك في تلك الرقصة المتخيلة بين العاشقين بالأبيض والأسود والتي تستعيد الحقبة الذهبية للسينما الأمريكية. ويقال إن «المخرج أراد أن يصوّر الفيلم كله بالأبيض والأسود لإضفاء جمالية خاصة على شريطه السينمائي تتناسب مع فحوى الحكاية وزمنها، لكن التكلفة الباهظة لهذا المقترح البصري حالت دون ذلك».
يعتني المخرج المكسيكي كثيرًا بكوادره السينمائية، فلا يهمل أي تفصيل مهما بدا هامشيًا، وهو يتقن جيدًا ثنائية الظل والضوء، فضلًا عن اهتمامه باللون الذي يحول المشاهد إلى لوحات تشكيلية تزينها الإكسسوارات والأزياء وحركات الممثلين، التي تمنح الفيلم إيقاعا ثابتا لا يخبو إلى أن تظهره تيترات النهاية. وحتى في تلك المشاهد التي تظهر في عمق الكادر عبر التلفزيون، والذي كان اختراعًا حديثًا، آنذاك، فإن «دل تورو» يستثمرها بحيث تنسجم مع أجواء الفيلم. ومعروف عن المخرج موقفه السلبي من التلفزيون، وكأنه بهذا التوظيف يريد أن يقول إن «التلفزيون لا يصلح لشي إلا أن يكون مجرد اكسسوار جميل في فيلم سينمائي ناجح».
وإلى جانب كل ذلك يأتي الحوار حكيمًا، مثقلًا بالإحالات الفلسفية، فلا مجال هنا للثرثرة، والكلام المجاني، لتتكامل عناصر الفيلم من المونتاج إلى الأداء التمثيلي إلى الحبكة المتقنة وصولًا إلى الموسيقى التصويرية التي وضعها الكسندر ديسبلات وحصد عنها أوسكار تصنيف هذه الفئة.