صلاح أبو سيف والنقاد
«سينماتوغراف» ـ انتصار دردير
يوما ما سألت المخرج الكبير صلاح أبو سيف – خلال حوار طويل جمعنى به – عن موقف النقاد من أفلامه وهل اتسمت رؤياهم بالموضوعية ؟
فصمت قليلا ثم اتجه الى مكتبته وأحضر كتابا وهو يقول: الاجابة ستجدينها فى هذا الكتاب، وقدم لى كتابا ذا غلاف أحمر وقد تصدرته صورة كاريكاتورية له بريشة المبدع جورج بهجورى. وكان الكتاب بعنوان «صلاح أبو سيف والنقاد» وتحته بخط أصغر عنوان آخر«أربعون فيلما تؤرخ للسينما المصرية» وقد كتب مقدمته الناقد د. على شلش والاعداد للدكتور أحمد يوسف.
وكتب لى المخرج الكبير اهداء أعتز به كثيرا، وتصفحت الكتاب فى ثوان وعدت اسأله، هل صدمتك بعض الأراء النقدية التى تناولت أفلامك ؟ فقال لى أقرأى الكتاب وستعرفين، ثم استطرد بصوته الهادئ : لقد قمت بتجميع كل المقالات التى كتبها النقاد عن أفلامى واكتشفت أنهم وقعوا فى تناقض كبير. ففى الوقت الذى رفع بعضهم أفلامى الى عنان السماء خسف بعضهم بها الأرض.
الكتاب الذى يحوى ستمائة صفحة من القطع الكبير يضم كافة المقالات التى تناولت الأربعين فيلما التى أخرجها على مدى مشواره السينمائى، والمثير أن أبوسيف كتب الاهداء للناقد سامى السلامونى قائلا: «الى الناقد الذى أفنى زهرة شبابه عاشقا لفن السينما، الى سامى السلامونى».
وفى تقديمه للكتاب، يستعرض د. على شلش قصة ابو سيف مع النقد فقد التقى بالمخرج الكبير فى مدينة أغادير وفوجئ به وقد أعد للنشر مجموعة كبيرة من ألوان النقد السينمائى وطلب منه كتابة مقدمة عنها لكنه شعر «أن صلاح أبو سيف ليس فى حاجة الى تقديمه ولا تقديم غيره ولكن طلبه هذا تعبير عن التواضع الحقيقى فأفلامه الطويلة التى تناهز الأربعين كفيلة بضمان مكانته المرموقة فى تاريخ السينما العربية».
ويكشف د. شلش جانبا مثيرا من حياة المخرج الكبير مؤكدا أنه بدأ حياته زجالا وأديبا، ومن هذا الباب دخل عالم السينما، وبدأ ينقد الأفلام فى المجلات حتى أصبح واحدا من نجوم النقاد الهواة فى مرحلة ازدهار الانتاج السينمائى من عام 1936 الى 1939. وكان ينشر مقالاته فى مجلات العروسة، الصباح، أبو الهول، وقد ظل عاشقا للأدب والموسيقى والمسرح والنقد، فاذا دخلت بيته وجدت مكتبة عامرة بأحدث الكتب العربية والانجليزية فى فن السينما الذى أغضب أسرته وجعله يتمرد عليها فى سبيل احترافه. والأهم من هذا كله أن حاسته النقدية التى رافقت شبابه الباكر لم تتخل عنه بعد ذلك، بل تطورت وصارت من خصائص أفلامه. فاذا كانت هذه الأفلام واقعية، فواقعيتها نقدية ، لاتكتفى بما يظهر على السطح، ولا تغرف من الواقع دون فهم لما يجب أن يكون عليه.
ويضيف د.شلش قائلا: نحن نعرف أن الفيلم الجيد مثل القصيدة الجيدة أو الرواية الجيدة لايمكن نقده من مشاهدة أو قراءة واحدة، ولايمكن فهمه بمعزل عن السياق العام لأفلام صانعه، أما غير ذلك من نقد فهو انطباع ابن انطباع، واذا كان النقد يبدأ بالانطباع فلا يمكن أن يشكل نقدا جديرا بهذا الاسم، وسوف نكتشف أن معظم المقالات التى كتبها نقاد السينما الأبوسيفية هى بنت الانفعال الفورى والانطباع العام، فلازال النقد السينمائى عندنا يتخبط بين الانتقاد والمجاملة، أما التحليل والمقارنة فيبدو أنها مازالت أدوات أجنبية.
وفى تقديم آخر للكتاب، يقول الناقد أحمد يوسف: ليست هناك وصفة جاهزة للنقد السينمائى ، وليس هناك فن أكثر ديمقرطية من السينما، هذا الفن الذى يفتح ذراعيه لكلمات النقد من كل اتجاه، بدءا من محررى الصحافة الفنية وأخبار النجوم الى أصحاب الأعمدة السياسية، يدلى كل منهم برأيه أو رؤيته، يختلفون أكثر مما يتفقون، فقد يرى أحدهم شيئا ويرى الآخر نقيضه، وقد يرى البعض فى هذا الأمر نوعا من الاضطراب لكنه فى جوهره يعكس الطبيعة الديمقراطية الأصيلة لفن السينما، بل هو دليل على حيوية السينما، لذا سوف يدهشك فى مقالات الكتاب أن ترى رؤية ثاقبة نافذة فى بعضها، كما سوف يدهشك أن يصدر ناقد حكما بالفشل على ممثل فى أفلامه الأولى ليحتل بعد ذلك ولسنوات طويلة مكانة الفتى الأول.
وقد يثير دهشتك أن يكتب ناقد عن فيلم فيرى فيه سلبيات، لكنه يعود ويكتب بعد عشرين عاما مقالا عن نفس الفيلم يعدد فيه الايجابيات، وهذا دليل آخر على حيوية فن السينما.
وتحت عنوان «ضمير الرفض والواقعية فى السينما العربية»، كتب الناقد الكبير كمال رمزى تقديما ثالثا للكتاب يستعرض فيه مسيرة أبو سيف الانسانية والفنية مؤكدا أن العديد من أفلامه أصبحت من الكلاسيكيات، ليس بالمعنى المذهبى ولكن بمعنى أنها صارت من اللآلئ المضيئة، ليس فى تاريخ السينما فحسب، ولكن فى تاريخ الثقافة، وهى ليست لآلئ متحفية ولكنها تضج بالحياة.
دايما فى قلبى
حرص أبو سيف أن يكتب بيانات كاملة عن كل فيلم قبل عرض المقالات وجاء فيلمه الأول «دايما فى قلبى» المأخوذ عن رواية جسر واترللو ليكون باكورة مقالات النقاد، وهو من انتاج 1945 وبطولة عماد حمدى وعقيلة راتب وسيناريو صلاح أبو سيف. والطريف أنه قام أيضا بعمل المونتاج مع زوجته السيدة وفيقة أبو جبل. وقد تناول الفيلم الاذاعى ضياء الدين بيبرس، وخليل منصور الرحيمى، قسم النقد والبحوث بمعهد التمثيل ونقد ثالث مجهول نشر بمجلة المصور. أما آخر مقال تضمنه الكتاب فكتبه الصحفى الكبير محمد عودة عن فيلم «المواطن مصرى» تحت عنوان «فيلم لكل المواطنين»، وبين المقالين عشرات المقالات التى تناول فيها كبار النقاد أفلامه.
وينهى المخرج الكبير صفحات الكتاب بتعليق يكشف عن ثقته بذاته وثقافته الواسعة وذكائه فيقول: «كان بودى أن أعلق على ما كتبه النقاد عن أفلامى الأربعين، لكننى فضلت أن أترك هذه المهمة للقارئ العزيز وهو خير حكم، ثم يذيلها بتوقيعه بتاريخ 1-6-1992».