«صمت».. ملحمية يابانية لسكورسيزي الباحث عن الإيمان
ـ أمنية عادل
رحلة الإيمان يمكن أن تستنفز العمر كله للوصول إلى الحقيقة وما بين الكلام والصمت يكمن اليقين، «صمت ـ Silence» الفيلم الأخير للمخرج المخضرم مارتن سكورسيزي المعروف بأفلامه المثيرة للتساؤلات والتعايش مع أحداثها، مأخوذ عن رواية للروائي الياباني شوساكو أندو، وتتناول رحلة راهبان إلى أرض اليابان البعيدة قادمين من البرتغال، تلك البلد الحاضرة على ساحل البحر المتوسط وتلاقي المحيط الأطلسي متجهين إلى أراضي تغلب عليها الأمطار والغيوم للبحث عن راهب اختفى بظروف غامضة في القرن السادس عشر.
صمت الإيمان
يقدم سكورسيزي من خلال فيلمه الجديد تساؤلات عدة أبرزها ما هو الإيمان؟، فهناك من يؤمنون ويحفظون عهودهم مع الله وآخرون يجرؤون بالجهر بها، وما بين الحرية والسطوة يظهر معدن الإيمان، ومعاناة الإنسان في الاحتفاظ بإيمانه خلال رحلة تأخذ معها ما بقي من قلب وعقل.
يسلط فيلم «صمت» الضوء على «رودريجو» الراهب صغير السن، المحب للرب والراغب في نشر المسيحية ودعم إيمان المؤمنين، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهى السفن، إذ أن اليابان بلد صعبة المراس، تعتمد الصرامة فيما يخص الدين والمعتقدات، وتعارض بوحشية مفرطة من يخرج عن الناموس الياباني.
قدم سكورسيزي مع كاتب السيناريو الأمريكي الشهير جاي كوكيس، الذي شاركه في كتابة بعض من أعماله في مقدمتها عصر البراءة، رؤية خاصة لرحلة راهب في بلاد غريبة، يضع المشاهد في رحلة موازية يكتشف بها ما هو الصمت، هل هو صمت الإله على ما يصيب عباده من ظلم وقسوة أم صمت الفرد على الإيمان وخضوعه للإنكار في سبيل الحياة؟.
الظاهر والباطن
يكشف الفيلم أنماط عدة من الإيمان، طرح خلالها ايقونات إيمانية متنوعة تكشف ملامح النفس البشرية المتقلبة، أولها الكاهن الغائب الذي يتحول عن المسيحية للنجاه بروحه من شبح الموت أمام مواجهة آخرين لا يخشون الموت في سبيل إيمانهم، وهناك من يخضع للظلم ويستنكر انتمائه للمسيحية للنجاه ويعود من جديد للاعتراف والتوبة، لينتهى الفيلم بما يكنه «رودريجو» داخل قلبه وروحه من حب لله والمسيحية دينه الذي تعهد أمام الله بحفظه وعدم الإفصاح عنه لأحد.
امتاز السرد السينمائي بعالم الحكايات، فمع بداية رحلة الراهبين للبحث عن الكاهن المختفي بأرض اليابان، يأتي التركيز على حياتهما ونسيان المشاهد للهدف الذي قدموا لأجله والغرق فيما يتتابع من أحداث ومشاهد متتالية، ومن ثم نعود من جديد إلى الكاهن الغائب الذي يمثل حلقة الوصل ما بين الحاضر والمستقبل للراهب «رودريجو»، الذي يسلك نهج الكاهن ويتخلى عن المسيحية ليحظى بحياة ناجيا من موت محقق، بعد أن حملته السلطة اليابانية مسؤولية موت المسيحيين من حوله، وكأنه المسيح تخلى عن معتقده ظاهريا لتخليص الآخرين من عذاباتهم، وهو ما وأد المسيحية في الأراضي اليابانية.
تحدى الوقت
من أكثر الصعوبات التي تواجه مشاهد فيلم «صمت» المدة الزمنية، حيث تصل مدة الفيلم إلى ساعتين و40 دقيقة، وهي فترة من الوقت يتحدى سكورسيزي المشاهد بأسره بلقطات من الطبيعة الخلابة والدقة التاريخية في الملابس، حيث يستهل سكورسيزي فيلمه بلقطة للكاهن «فيريرا» الذي غاب في أرض اليابان وانقطعت أخباره عن الكنيسة وتأتي تلك الرحلة كاملة للبحث عنه.
تلعب المشاهد التي توضح تعذيب المسيحيين لتمسكهم بدينهم في وجه التوظيف السياسي للمعتقد، نقطة الانطلاق للحكاية التي تستمر على مدار أكثر من ساعتين، وكما هو الحال في أفلام أكيرا كيروساوا تأتي بعض لقطات فيلم «صمت»، حيث استغل سكورسيزي الطبيعة الرائعة المغرية وعناصرها لخدمة فيلمه فنيا، من خلال توظيف الأمطار والغيوم والضباب المخيم على المناخ العام لهذه البلاد البعيدة.
ملحمية هوليودية
الي جوار القصة تبرز عناصر أخرى تكمل ملحمية السرد السينمائي الذي يكثف به سكورسيزي مسيرته وخبرته السينمائية، من حيث اتباع تقنيات تصوير خاصة كرست لتراتبية القصة وتتابعها بعين خاصة للمصور «رودريجو بريتو» المرشح لجائزة الاوسكار في فئة التصوير عن هذا الفيلم، والذ نجح في التعبير عن حالة التأمل التي يسعى لها الفيلم، لاسيما مع لقطات مميزة من زوايا خاصة كالتصوير من أعلى، وكأنها عين الله التي ترى كل شئ وتختبر الإنسان بحياته الشاقة، فيما حضرت الطبيعة طاغية على موسيقي الفيلم، وعلى صوتها فوق الجمل اللحنية البسيطة التي تكاد لا تذكر بجوار أصوات تدفق المياه وحركة الأمواج والأشجار، التي تدعم الجانب التأملي وتمنح المشاهد مساحة للتركيز ومتابعة المسار الكثيف والعميق دلالة وواقع تاريخي للأحداث.
وطول مدة الفيلم صعبت مهمة المونتاج للمونتيرة «ثيلما سكونميكر» التي شاركت سكورسيزي كتير من أعماله السابقة، وهو ما سهل فهم ماهية العمل ووضعه في سياقه الصحيح، وساعد الإيقاع على التناغم مع العناصر الأخرى والتعبير عن ملحمية الحدث.
«صمت» فيلم مخرج بامتياز كما كان للتمثيل حضور بارز، فاختيار الممثلين ملائم، حيث أندرو جارفيلد في دور الراهب «رودريجو»، وجسد جارفيلد معاناة هذه الشخصية التي تتخبط في رحلة الإيمان، ولمس المشاهد معاناتها حتى وسط لحظات الصمت، وكذلك ليام نيسون في دور الأب «فيريرا»، والذي لم يظهر إلا بمشاهد معدودة لكنه جسد فكر من يحاول إنقاذ روحه بالانصياع لما كتبه له القدر، فيما برعت الشخصيات اليابانية في التعبير عن طبيعة هذا الشعب الذي عرف بالعنف قديما، ومن أبرز ممثلي اليابان في الفيلم «يوزيك كوبوزوكا» أو «كيشيجيرو» الذي استسهل نبذ دينه في سبيل الحياة حتى يذوق الموت بعد اكتشاف إيمانه العميق، ويشعر المتفرج أن تلك الشخصية بصورة خاصة قادمة من عوالم كيروساوا الغامضة.