المهرجانات

«صوفيا» أفضل فيلم أول في «قرطاج».. علاقات جنسية بين سلطة المال وسطوة القانون

«سينماتوغراف» ـ مريم بن قارة 

في فيلمها الروائي الطويل «صوفيا» والذي نافس ضمن قائمة الأفلام الروائية الطويلة في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية، والذي اقتنص ثلاثة جوائز، أفضل عمل أول، وجائزة الطاهر شريعة، وجائزة الجامعة الإفريقية للنقد السينمائي، بالإضافة إلى تنويه خاص من لجنة التحكيم، استطاعت المخرجة وكاتبة السيناريو «مريم بن مبارك» من خلال تبنيها لأسلوب (سينما المؤلف) أن تسلط الضوء على قضية مغربية اقتبست أحداثها من واقع المرأة التي تتفاقم همومها وتتصادم إرادتها أمام قيود اجتماعية وبنود قانونية تلزمها بأن تكون في خانة الضحية المجبرة على تحمل هذا الدور.

كسر فيلم «صوفيا» كل البديهيات والمسلمات بقضايا المرأة النمطية وحقوقها في ممارسة الجنس خارج إطار مؤسسة الزواج كنوع من أنواع الحرية الشخصية التي تكفل الصحة النفسية والجسدية للفرد، فتجعله سوياً لا يحاول التأثير بالسلب على مجتمعه من خلال خرق قوانين تكبح رغبته كبالغ من حقه تقرير ما يلائمه.

ومن خلال حبكة درامية غير مبالغ فيها استطاعت «بن مبارك» مخالفة توقعات الكثير من العلمانيين المغاربة الذين يريدون الانتصار لهذه الفكرة، فجاء فيلمها أكثر مصداقية، تاركاً الشعارات والتهليلات لمكانها المعتاد، مؤكداً أن الفكرة التي قدمتها ليست إلا مواقف طبيعية لمن يعيشونها يومياً.

قصة الفيلم الواقعية التي نقلتها المخرجة مريم ليست إلا إسقاط سينمائياً لما يحدث في مجتمعات عربية كثيرة، حيث تتفاقم فيها ظاهرة العلاقات الجنسية غير الشرعية أو كما هو متداول في لغة القانون العلاقات خارج مؤسسة الزواج، والذي ينتج عنه أطفال، تغيب هويتهم بين الدين والقانون.

هذه القضية التي حاول مخرجون ومخرجات قبل «بن مبارك» معالجتها بأيديولوجيات غير حيادية تنتصر للحركات النسوية المغربية التي وصل عددها إلى 32 جمعية عام 2018، تطالب بإلغاء قانون 490 والذي سُنَّ كما يقولون ليكبح حرية الجنسين في ممارسة الجنس ولو بالتراضي للراشدين حسب القانون، وتستند تلك الحركات النسوية العلمانية في مطالبها إلى أن هذا النوع من العلاقات الجنسية بالتراضي لا تضر بالطرفين ولا حتى بالمجتمع بل هي علاقات تندرج تحت بند الحرية الشخصية للفرد.

ومن هذه الأيدلوجية انطلقت بن مبارك في كتابة سيناريو فيلمها وإخراجه، مخالفة كل التوقعات بالانتصار لتلك الجمعيات، خاصة وأن القصة الحقيقية التي بنت عليها فيلمها كانت لإحدى قريباتها، وظلت مريم ما يقارب السنتين وهي تراقب وتستمع لمن تعرضوا لمثل أحداث فيلمها، الذي يرصد حياة الفتاة الوديعة الهادئة صوفيا ذات الـ 24 ربيعاً، والتي نشأت في كنف أسرة مغربية محترمة، لكنها تمارس علاقة جنسية غير شرعية وتكتشف ابنة خالتها حملها، وتبدأ رحلة المواجهات مع المستشفيات والأسرة والأوراق الثبوتية، والوضعيات القانونية، فهل استطاع صناع العمل والفيلم بما حمل من قضية أن يرصدها ويعبر عنها ويصل بها الي العمق المطلوب.

من المؤكد أن حرية التعبير هي المنطلق الأول في الإبداع، وليس من حقنا أن نحاصر حق مخرج أو كاتب في اختيار ثيماته. لكن، بالمقابل، ليس من حق أي مخرج أن يتطرق لقضية معينة؛ وأن يهدف للنضال من أجلها؛ ثم يقدم مضموناً قد يؤثر على تلك القضية في عمقها.

صحيح أن مريم بن مبارك قدمت فيلماً عن الأمهات العازبات، لكنها اتجهت في النهاية إلى نفس توجه التيار المحافظ الذي يعتبرهن (نساء فاسدات يحملن من شخص ما ويتهمن ظلماً شخصاً آخر لا علاقة له بالحمل). تماماً، كما صوفيا في فيلم صوفيا؛ حيث المرأة، حين تتوفر لها الإمكانيات المادية، تستطيع شراء كل شيء، بما في ذلك أب لطفل ولد خارج الزواج، وهو ليس والده، والتطور الدرامي للأسف لا يعكس نهائياً واقع الأمهات العازبات، بل يقدم الحقائق بشكل مشوه ومبتور، فالصراع بين «الآنا» و«الآخر»، الاضطراب بين ما تريده «صوفيا ـ مها علمي» التي أدت دورها بذكاء وملامح ساذجة أخفت حقيقتها حتى النهاية، وما تراه «لينا ـ سارة برليس» قد يعكس واقعاً صحيحاً، وكذلك بين ما يريده المجتمع والعائلة، وهو صراع آخر مختلف بين فئات وشرائح المجتمع المغربي بخصوص القانون 490، والذي يطالبون بتغييره وبين داع لتعديل نصه القانوني مع التأكيد على ضرورة عدم تجريم ما سموه «الجنس الرضائي بين الطرفين».

في النهاية، من خلال صورة ومفردات سينمائية، ومشاهد معبرة اشتغلت عليها المخرجة مع ممثليها، ولقطات اختفت منها الموسيقى لتكون أكثر تأثيراً، وإبحار في واقع يفتح أمام المشاهد العديد من الأسئلة، نجح الفيلم في ألا ينحاز للمرأة، ويقدمها بالطريقة التقليدية كضحية، بل على العكس هي اختارت الرجل في الحالتين، من حملت منه، ومن اختارته كأب لطفلتها، لتعكس القضية تواطؤ الجميع داخل هذا المجتمع بنسائه قبل رجاله. مجتمع يعلم أن هناك جريمة قانونية، وهذا هو المستوى الثاني لقراءة الفيلم، إلا أنه مستعد للتواطؤ، الأسرة الصغيرة والدائرة الأوسع بالتتابع لتصل إلى كل الطبقات الاجتماعية.

وكذلك لا يتجاهل الفيلم الفساد والتفاوت الطبقي في المجتمع المغربي، وهو من المسائل التي تطرحها مريم بن مبارك، فنمر معها في جولة داخل الفيلم على متن مرسيدس «لينا» من الأحياء الفقيرة في الدار البيضاء إلى فيلاتها الفخمة المطلة على البحر، جولة سطحية لكنها تسبر أغوار البؤس الذي ينهش حياة المهمشين.

«صوفيا»، هو أول فيلم روائي طويل لمريم بن مبارك بعد عدة أفلام قصيرة، أشهرها فيلما «نور» و«جنه» الذي حصلت من خلاله على عدة جوائز ورشحها لأوسكار أفضل شريط قصير سنة 2015، وهو فيلم التخرج بعد دراستها السينما في المعهد الوطني لفنون السينما ببروكسيل.

نال «صوفيا» جائزة أفضل سيناريو في مسابقة «نظرة ما» للدورة الـ 71 من مهرجان كان السينمائي، وجائزة «فالوا» لمهرجان الفيلم الفرنكوفوني «آنجوليم» بفرنسا، ويتابع رحلته مع المهرجانات السينمائية، ليثير الجدل ويدفع إلى مزيد من التساؤلات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى