مراجعات فيلمية

«ضوضاء بيضاء».. يفتقد العمق رغم جهد نواه بومباخ الإخراجي

فينيسيا ـ «سينماتوغراف» :  محمد هاشم

بعد ثلاثة أعوام على مشاركته في المسابقة الرئيسية، بفيلمه الرومانسي الاجتماعي النفسي “قصة زواج” (تمثيل آدم درايفر وسكارليت جوهانسن ولاورا ديرن)، الذي كان اكتشافاً رائعاً في تلك الدورة؛ والذي حظي بإقبال جماهيري، ونال ترشيحات عدّة، وفاز بجوائز مُستحقّة؛ عاد نواه بومباخ إلى المسابقة الرئيسية لـ”مهرجان فينيسيا” بجديدٍ، لا يتقاطع لا مع الكوميديا السوداء أو البيضاء، ولا بالرعب، ولا بالغنائيّ الراقص أو الاستعراضي، وفقاً لما أُعلِنَ عنه، قبل عرضه. فيلم «ضوضاء بيضاء ـ White Noise»، المُقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (1985) للكاتب الأميركي دون دليلّو، والفائزة بجائزة “الكتاب الوطني للرواية”، يخلو من كل ما سبق، بما فيه العمق الفلسفي، والتأمّل الوجودي، اللذان بَدَوا على قدر كبير من الركاكة والسطحية، رغم الجهد الإخراجي الملموس.

هل العيب في الأصل الروائي، واختيار المخرج للعمل؟ أم في رؤية نواه بومباخ للنص الأدبي سينمائياً؟ أم عدم صلاحية الرواية للاقتباس أصلاً؟ أم، ببساطة، إخفاق المخرج في اقتباسه الرواية؟ إذْ يندر أنْ يلجأ بومباخ، في أفلامه، إلى الاقتباس من أصل أدبي، فهو يكتب قصة وسيناريو وحوار أفلامه بنفسه. من ناحية أخرى، يصعب تخمين أسباب اختيار الفيلم لافتتاح «فينيسيا السينمائي».

لا علاقة للنجوم بالأمر، فالمهرجان يزخر هذا العام بنجوم عديدين، أهمّ وأكثر جاذبية من أبطال “ضوضاء بيضاء”. كما يُستبعد أنْ تكون هناك شبهة انصياع أو رضوخ لمطالب “نتفليكس”، مُنتجة الفيلم، وأفلام أخرى في المسابقة وخارجها، إذْ لم يتسرّب، حتّى اللحظة، أيّ شيء بهذا الخصوص. إذاً، لعلّ الأمر ببساطة شديدة مردّه برمجة المسابقة الرئيسية، المنوط بها دائماً المدير الفني ألبيرتو باربيرا، المعروف بذوقه الفني المتميّز، وباختياراته الرفيعة.

تدور أحداث الفيلم (136 دقيقة) في ثمانينيات القرن الماضي، مع أسرة البروفيسور جاك غْلادني (آدم درايفر)، الجامعي المرموق، والمعروف بتخصّصه النادر في الدراسات الهتلرية. زوجته بابِتْ (غريتا غُرويغ) ربّة منزل، ومُدرِّبة رياضية أحياناً. لديهما أربعة أولاد في أعمار مُختلفة. تحيا الأسرة حياة نموذجية ونمطية وسعيدة وهانئة، باستثناء بعض وسواس الأمراض، وهواجس مُرتبطة بالحياة وماهيتها، والخوف من أشياء كثيرة، خاصة الموت، رغم الإدراك المُسبق للزوجين بأنْ لا مفرّ منه، ويستحيل تجنّبه.

مع تطور الأحداث، والتعريف بالشخصيات وخلفياتها، تحدث صدمةٌ كبرى، تتمثّل باصطدام شاحنة كبيرة، مُحمّلة بمواد قابلة للاشتعال، بقطار بضائع ضخم، مُحمّل أيضاً بمواد كيميائية قابلة للاشتعال، ما يؤدّي إلى انفجارات ضخمة، وانبعاث سحابة كبيرة وشديدة الخطورة من الغازات الكيميائية، المهدِّدة لحياة البشر في المنطقة، فيُنفَّذ إخلاء عاجل للسكّان إلى مخيّم، ريثما يتمّ احتواء الوضع، والسيطرة عليه. كارثةٌ، من شأنها زعزعة حياة أسرة مهووسة ومرعوبة، أصلاً، من أمور كثيرة، لا وجود لها أساساً.

عوضاً عن تطوير الحبكة وتعقيدها أكثر، بناء على تلك الكارثة المفصلية، وتمحور الأحداث حول حياة الشخصيات وردود أفعالها المختلفة إزاء ما حدث لهم ولبلدتهم وجيرانهم، يتجاهل “ضوضاء بيضاء” الحادثة كلّياً، تقريباً، كأنّها لم تقع. من منتصفه إلى نهايته، يتفرّع الفيلم إلى حبكات أخرى جانبية غريبة، وغير مهمّة، ولا تفيد في تطوير الحبكة، وخلق غموض وتشويق واستمتاع سينمائي، من أي نوع، ولا في تطوير الشخصيات وعوالمها، اجتماعياً ومرضياً ونفسياً، ما انعكس على نمطية ورتابة وضعف أداء الشخصيات الرئيسية.

ينتهي “ضوضاء بيضاء” ـ الفارغ من كلّ جديد وفنّي، ومن كل ما يحثّ على التفكير، ويحضّ على المتابعة والاستمتاع ـ برقصة استعراضية طويلة، لـ10 دقائق تقريباً، لا صلة لها به وبأحداثه، تدور في سوبرماركت ضخم، بين الممرّات والأرفف المحمّلة بالبضائع والسلع، بينما تتسوّق الشخصيات، وآخرين. المُثير في تلك الخاتمة أنّها، كوريغرافياً، ليست مُمتعة وجذّابة وفنّية، ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول مخرج، تجلّت بصماته سابقاً في أفلامٍ أهمّ وأعمق وأجمل فنياً بكثير من “ضوضاء بيضاء”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى