«عرق الشتا» للمغربي حكيم بلعباس.. حرفية الصورة بإنسانية عالية
دبي ـ محمد بوغلاب
في مسابقة المهر الطويل، فيلم مكتف بنفسه لايشبه نظراءه هو “عرق الشتا” للمغربي حكيم بلعباس الذي ولد مطلع الستينات في قرية أبي جعد التي كانت أرض أفلامه.
شاهد حكيم بلعباس كثيرا من الأفلام منذ طفولته فقد كان والده مالكا للقاعة الوحيدة في القرية، ويبدو أن القدر أراد لحكيم لن يكون سينمائيا، درس الفن السابع في فرنسا ثم في أمريكا وفيها بقي مدرسا للسينما بجامعة شيكاغو، لم يعد حكيم بلعباس إلى المغرب جسدا ولكنه لم يفارقها روحا ولو في لقطة سينمائية وحيدة .
إختار بلعباس ان يتحدث عن مغربه هو، مغرب الناس البسطاء الكادحين وحين سألته في حوار جمعنا في دبي الأسبوع الماضي ضمن الدورة 13 لمهرجانها السينمائي(ألا تخشى أن تصنف أفلامك على أنها مسيئة إلى المغرب؟)، إبتسم بشيء من السخرية وقد أدرك سريعا أني أحاول جره إلى دائرة الاستفزاز وقال”لست وزير السياحة أو الاتصال وليس من مهامي الدعاية للمغرب، أنا أحكي المغرب”.
كاد النقاد في المغرب يتفقون على فردانية حكيم بلعباس واعتباره أحد صناع الموجة الجديدة للسينما المغربية الواقعية، يقول بلعباس”لا أتبع الموضة ولا سينما الحدث بل أتبنى سينما الواقع”، ورغم رأي البعض ان أفلام بلعباس تتشابه وربما تتكرر فإنه لم ينف التهمة قائلا: “هي الحكاية ذاتها ولكن المحكي يتغير”.
اختار حكيم بلعباس عن وعي ان يسلط الضوء على المساحة نفسها وعلى مواضيع بعينها ضمن رؤية فنية قوامها نقل المغرب إلى شاشة العرض وهو ما يفسر صياغة كتاب بأكمله عن حكيم بلعباس بعنوان “حكيم بلعباس مشروع سينما جديدة” أصدرته الجمعية المغربية لنقاد السينما جاء فيه أن “حكاية حكيم بلعباس هي توجيه ضوء الكاميرا إلى زوايا العتمة، وتحويل المشهد الخلفي إلى صورة الواجهة، واستحضار المغيب والمحجوب واستنطاق الصامت والمسكوت ومساءلة المواقف من الهوية والذات في مراوحتها المتوترة بين الوجود بالمفرد والوجود في الجماعة”.
“عرق الشتا” قصة مبارك فلاح في ابي الجعد النائية، يحاول إنقاذ أرض الأجداد من البيع بعد أن غرق في الديون وعجز عن تسديد القرض للبنك، بعد ان حبست السماء ماءها.
يبحث مبارك عن الماء في بطن الأرض بفأسه، تساعده زوجته عيدة بمقاسمته الهم والأخذ بيده، تحمل في بطنها المولود المنتظر وفي قلبها حبا عفويا عميقا لزوجها لا يجد الفضاء الملائم ليتمظهر.
وفي العائلة ايوب الإبن الوحيد لمبارك، المتخلف ذهنيا والذي لا يقدر الأب على مناداته إبني بل يصفه بالخليقة أو المخلوق، فأيوب ليس الإبن المثالي في كل الحالات في ثقافتنا العميقة هذا إذا تحلينا بالصراحة فكلنا نريد من أبنائنا ان يكونوا الأفضل والأجمل والأنجح.
مفردات القصة قد تصلح لفيلم مصري شيق مع بعض الإضافات لمزيد من النكهة والحبكة، لكن حكيم بلعباس الذي لا تراه في كواليس المهرجان منفردا بل مرافقا ملازما لبطل فيلمه: أيوب الخلفاوي (الطفل المعوق وبشيء من المداهنة والنفاق الإجتماعي) من ذوي الإحتياجات الخصوصية. حين يتثاءب أيوب دون ان يضع راحة يده على فمه تأدبا ينظر إليك حكيم بلعباس ويقول لك “كنت أتمنى أن أكون مثل أيوب أتصرف كما انا دون أي إكراهات”.
ذلك هو حكيم بلعباس صلاته بممثليه ليست مهنية او سياحية بل علاقة إنسانية
يرفض مبارك بيع الأرض كما ينصحه صديقه “بيع الأرض وفك عليك، ارض الله واسعة”.يجيبه “عرق الجدود شنوة ندير عليه” أما عن ارض الله التي يراها البعض واسعة فهي “مضيقة على مبارك”.
مع وصول الإشعار الأخير من البنك تلدغ عقرب مبارك وهو يحاول الوصول إلى باطنها بحثا عن الماء ليحي أرضه البور.
يتابع مبارك الحفر، واليأس يطارده ويحاصره، كان عليه السفر للفكاك من اسره
يقص بلعباس قصص شخصياته كما هي، لا يطلب من أحد أن يكون ممثلا فقد فعل أيوب ما أراد بالحكاية يغير مسارها كما يشتهي تلاحقه كاميرا المخرج بعين مدير التصوير التونسي أمين المسعدي.
يقول حكيم بلعباس “نبيل عيوش هو الذي عرفني على أمين، تحدثت معه بالتلفون وشعرت من تلك اللحظة أنه الشخص المناسب لأفلامي، لم نتحدث عن السينما إلا قليلا، وجدنا أنفسنا نتحدث عن أبي تمام والمعتزلة وإبن رشد”.
كانت الكاميرا راوية للقصة يرافقها الصوت الداخلي لأيوب يحدث نفسه ويخبرنا عن ابويه وعن جده وعن معلمه ورفاقه في المدرسة.
تكاد انفسنا تنقطع ونحن نلاحق الكاميرا المحمولة لحكيم بلعباس على وقع خطوات شخصياته وتلاحق زفراتها، ألم يقل أحد النقاد “إن متابعة أفلام بلعباس مكلفة كثيرا على المشاهد”.
يكاد اليأس يقضي على مبارك، يقول له إمام الجامع تحل بالصبر يا ولدي ويذكره بقصة النبي يونس في بطن الحوت، ولكن مبارك لا يجد شيئا في باطن الأرض التي يريد الحفاظ عليها في مواجهة مدير البنك الذي يقبل الرشوة حتى لو كانت دجاج عربي حي.
كان يمكن للقصة ان تكون فيلما مصريا ينتجه السبكي فالموضوع يقبل ذلك، غير أن حكيم بلعباس يحسن الإشتغال على سؤال “كيف”، هذه واحدة من نقاط قوته
يحفر مبارك بئر الماء وكأنه يحفر قبره، تتلاحق مشاهد الظلمة “الليالي الكحلاء والأيام الحارة” والحصان الأسود والكلبة السوداء المريضة..
يواصل مبارك الحفر في إنتظار ولده القادم صالح
اما أيوب الذي لايقدر الأب على مناداته بولدي فيرى نفسه راجل مزيان
يموت الأب في البئر/ القبر
يواصل أيوب الحفر حتى تكشف الأرض عن مائها
ينجح حكيم بلعباس في سرد قصة أخرى من قصص قريته أبي الجعد بحرفية عالية بمشاركة الممثل المغربي المتميز امين الناجي (مبارك) وفاطمة الزهراء بالناصر(عيدة) أما أيوب فهو صديق حكيم وعائلته، هو خارج الكادر أيوب الخلفاوي الذي غير نهاية الفيلم وجعل المخرج يتبع خطاه مستسلما فالقصة الإنسانية أهم من الصنعة والسيناريو الذي لا يؤمن به حكيم بلعباس إلا كذريعة مبدئية.
فيلم إستثنائي لم يتجاوز عدد ممثليه التسعة، في العرض العالمي الأول في دبي السينمائي.. بتوقيع حكيم بلعباس يكشف النهضة السينمائية في المغرب في العشرية الأخيرة.