مراجعات فيلمية

«على سفينة الأدامان» .. فيلم إنساني يستحق دب برلين الذهبي

برلين ـ  نسرين أحمد

عندما أعلنت رئيسة لجنة التحكيم فوز فيلمه «على سفينة الأدامان» بالدب الذهبي، أرفع جوائز مهرجان برلين السينمائي، دُهش المخرج الوثائقي الفرنسي نيكولا فليبير، وقال في تواضع تام «أأنتم متأكدون من هذا القرار. هل جننتم!»

ويمكننا القول إن ردة فعل فليبير المندهشة تلك هي خير مدخل لعالمه، فعلى تميزه الكبير كمخرج للفيلم الوثائقي، إلا أنه لا يثير الجلبة أو الضجيج، ولا يتمحور حول ذاته، وينجز أفلاماً إنسانية مرهفة، قد يتجاوزها الكثير من رواد المهرجانات، والصحافيين والنقاد، وسط جدول المهرجانات المزدحم، ظناً منهم أنها أفلام على هامش المسابقة، أو قد لا تحظى بجوائز. لا يحتاج الدخول إلى عالم فليبير إلا التمتع بإنسانية كبيرة وبقلب كبير كقلب أفلامه.

في فيلمه «على سفينة الأدامان» يشرع فليبير أمامنا أبواب تلك السفينة، التي ترسو على ضفاف نهر السين في باريس، وهي ليست بالسفينة العادية، بل هي مصحة نفسية عائمة، يرتادها من هم في حاجة لعلاج نفسي أو عقلي، يخرجون منها ويأتون إليها طواعية، كما لو كانت ملاذاً لهم من العالم، أو مكاناً يجدون فيه الكثير من الدعم والتفهم. ينفذ فليبير إلى عالم تلك السفينة وعالم روادها، دون تطفل أو إصدار أحكام، وبإنسانية كبيرة وتفهم وتعاطف كبيرين.

يحتفظ بمسافة تمنح الثقة لأهل السفينة، فيشركونه بود في حياتهم. لا نسمع تعقيبا أو تعليقا من المخرج، بل نجد الفيلم والأحاديث والقصص تنساب، كما تنساب المياه في ذلك النهر الذي ترسو عليه السفينة.

سفينة الأدامان تمنح الرعاية والدعم النفسي والطبي، لأشخاص أثقلهم الألم النفسي أو العقلي، تخفف عنهم آلامهم عن طريق جلسات المعالجة بالحديث أو الرسم، أو التعبير عن الذات بالموسيقى والغناء، وفيها ناد للأفلام لمشاهدة نفائس السينما والنقاش حولها. يمنح الوجود الهادئ غير المتطفل لفليبير رواد سفينة الأدامان الأمان للحديث إليه، والبوح ومشاركته أنشطتهم اليومية.

تتعدد اللقطات التي تصور سفينة الأدامان في الصباح الباكر، حين تبدأ في فتح نوافذها الخشبية المميزة، لينفذ الضوء إلى داخلها. بالقرب منها يمكننا أن نسمع ضجيج المدنية وحركتها الدائمة، بينما ترسو هي في موقعها، كما لو كانت واحة أو ملاذاً، وهي بالفعل ملاذ لهؤلاء الأشخاص الذين يرتادونها للتخفيف عن آلامهم النفسية. لا نرى الأطباء النفسيين في صورتهم المتخيلة المعتادة، ولا نرى المرضى النفسيين كما تصورهم أفلام أخرى. نرى أمامنا أشخاصا يتوقون للحديث، يودون التعبير عن ذواتهم، التي تحمل الكثير من الموهبة والفن والفكر. نراهم يتحدثون أو يحتسون القهوة أو يقرأون أو يعزفون الموسيقى. الفن والعلاج بالإبداع جزء لا يتجزأ من عالم سفينة الأدامان، ويحظى العديد من روادها بالكثير من الموهبة في الرسم والموسيقى والغناء، بل إن الفيلم يبدأ، بأربعيني من رواد السفينة يغني بصوت قوي جميل أغنية تحمل كلماتها الكثير من التفاؤل والدعم النفسي. نسمعه يتحدث عن مكنونات ذاته لاحقا، وما يمنحه هذه القوة والقدرة على الغناء والتوازن هو حضوره إلى المشفى وحفاظه على الدواء.

لا يتعامل فليبير قط مع رواد السفينة على أنهم مرضى، أو حالات غرائبية يعرضها على مشاهدي الفيلم. نراهم بشراً مثلنا، تثقلهم الهموم أو المرض فيحتاجون إلى العون والدعم. يصحبنا الفيلم إلى عالم فريدريك، أحد رواد السفينة، الذي يجيد الرسم ويقول إنه يشبه في شكله وفي موضوع أعماله الفنية فان غوخ، ويجد علاقة وطيدة بين ذاته وحياته، وفان غوخ.

يتحدث فريدريك بمرح وحماس عن السينما والموسيقى. نلتقي امرأة أخرى تتحدث عن ابنها الذي أبعدته الرعاية الاجتماعية عنها وهو في طفولته، ولكنها تتحدث في هدوء ويقين إن هذا كان القرار الصائب لصالح الصبي. رغم آلامها ورغم آلام فريدريك، نراهما يتمتعان ببعض السكينة والهدوء النفسي اللذين ما كانا ليحصلا عليهما دون القدوم إلى متن الآدامان.

في هدوء ودون جلبة أو صخب، يقدم لنا فليبير أهل سفينة الأدامان فنصبح أصدقاء لهم عن بعد. لا يتطفل فليبير على رواد السفينة ولا يحاصرهم بالأسئلة أو الرغبة في معرفة أسرارهم. نجده يفسح لهم المجال للبوح والحديث عما يشغلهم. يتحدثون دون توجيه منه، ويقولون ما يودون قوله، أو يشاركونه أعمالهم الفنية ويتحدثون عن كيف تعبر هذه الأعمال عن ذواتهم. الإنسان وما يعتمل في داخله هو الشغل الشاغل لفليبير في «على سفينة الأدامان».

يبتعد الفيلم تماماً عن تصوير رواد السفينة كمرضى أو الحكم عليهم أو تقييمهم بأي صورة من الصور. نتماهى معهم ونتفهمهم ونفهمهم، ومع انتهاء الفيلم نشعر بأننا أصبحنا أصدقاء لهم.

يتجلى إبداع فليبير في صمته وبعده، وفي عدم فرض رؤيته أو سطوته على الشخصيات. يتوارى إلى الخلف ويترك العنان لشخصياته للحديث. يقول فريديريك، أحد رواد المشفى، في وجه هادئ وملامح مبتسمة «أود أن أعرف لماذا تحدث لنا أمور مأساوية».

وهذا السؤال نجد أنفسنا نسأله أيضاً: لم تحدث أمور مأساوية لهؤلاء الأشخاص الذين نرى الكثير من أنفسنا فيهم. لا يسعى فليبير لتقديم إجابات أو إدانات، بل يقدم لنا طرحاً إنسانياً في المقام الأول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى