بلاتوهات

«عماء» للبرازيلي فيرناندو ميريليز.. أناس يرون ولكن لا يرون

«سينماتوغراف» ـ مسعود أمر الله آل علي

لوهلة ما، قد تشعر بعماء مؤقت وأنت تستسلم بكامل حواسك إلى الصور المتساقطة أمام عينيك من الشاشة مباشرة. هذا العماء قد يكون أبيضَ مثلما هو المرض المنتشر في فيلم «عماء ـ Blindness» للبرازيلي فيرناندو ميريليز، أو بعماء أسود من دكنة الفيلم، ومن طريقة استخدام الزوال من وإلى السواد بتعمدٍ ذكي من المخرج لتعيش حالة الشخصيات، وبالتالي حالة الفيلم المكشوفة على البصر، وفي ذات الوقت على الاغماض التام.

إن كانت السينما هي فن الفرجة، فإن ميريليز يطعن هذه النظرية باللعب على تعطيل النظر ليدخلك إلى أجواء الفيلم، وهذا الشلل الذي يُصيب نظرك، هو هنا المتعة القصوى، والسر الخفي في «فرجة» الفيلم المقتبس عن رواية بذات العنوان للبرتغالي خوزيه ساراماغو.

Blindness 4

عندما تُصاب مدينة بطاعون يُعرف بـ «العمى الأبيض». ينتقل المرض من واحد لآخر منتشراً بخفّة وسرعة، هذا المرض الغريب ليست له دلالات أو أعراض واضحة، هو يأتي على شكل ومضات مشوّشة، يغيّب النظر للحظات، ثم يعطله دون أن يتسبّب بتشويه للعين، أو القرنية، هو يدمّر الرؤية إذن، ويُعدي عن طريق اللمس، هو بالأحرى عماء روحي، يخمد العاطفة الإنسانية، ويشعل حيوانيتها.

يبدأ الفيلم بفلاشات بيضاء حليبية تغرق الشاشة، يتماهى لديك النظر بين ما تراه وما تحاول أن تراه في عمق هذا البياض، هذه الفلاشات هي لرجل يقود سيارته في طريقه إلى المنزل، وهو الآن مصاب بأوّل حالة عمى، وعالمه يبدأ تدريجياً بالتلاشي. واحداً تلو الآخر يتلوث بالمرض عندما يقابلهم: الشخص الذي يساعده، الزوجة، والطبيب الذي يعالجه، كلهم يُصابون بالعماء.

Blindness 5

يبدأ الطاعون في التغلغل إلى المدينة خالقاً حالة من الذعر لدى السلطات، يتعرّض المصابون للحجز في مشفى للأمراض العقلية؛ حيث تذوي حيواتهم العادية، وعليهم الآن أن يتعايشوا جميعاً في عالمٍ مصغّر، ضيّق الأفق، ومحدود بالخطوات القليلة التي تجاور أسرّتهم. هنا، كأنهم وُلدوا من جديد، عليهم أن يتحسّسوا الأشياء، ويتعلموا المشي، وأن يتخبطوا كثيراً بمحتويات المكان، وبأنفسهم أيضاً. وهنا يختبىء شاهد عيان على ما يحدث، امرأة «جوليان مور» لم يتأثر بصرها بهذا الوباء لسببٍ ما، تُلاحق زوجها الدكتور المصاب بالحجر «مارك روفالو»، وتُخفي سر إبصارها عن الجميع، ترى وسط هذا العمى الأبيض ما يحدث تدريجياً للحضارة الإنسانية من إنهيار عندما يفقد المرء حاسة ما، ليس بالضرورة أن تكون حاسة عضوية، ولكن هو فَقد عام إلى النظام، والاحترام، وحرية الآخر، تماماً كما يصفه ساراماغو في كتابه: «لا أعتقد بأننا أُصبنا بالعماء، ولكني أجزم بأننا كنا عميان دائماً.. عميان لكن نرى. أناس يرون ولكن لا يرون» هذا العماء هو مجازي إذن، لأن الحقيقية دائماً أمامنا واضحة ومشعّة، غير أننا لا نريد أن نراها.

Blindness 1

ميريليز يُحيلينا إلى هذا التفسير في المشفى أيضاً، في هذا المجتمع الصغير المنبوذ عندما يدبّ العمى النفسي بين العميان أنفسهم حين ينفذ الطعام، عندها يرجع الإنسان إلى بدائيته الأولى، ويشعر بنقص ما يمنعه من  البقاء، هذا النقص مهما كان، هو سرّ غريزة الحيوان: الافتراس بالوسائل المتاحة: الأنياب، المخالب، الافرازات السمية، التلون والتماهي مع المحيط للانقضاض على الآخر، وسلبه حق البقاء.

نحن نلعب دور المتحضرين لأننا مصابين بالشبع، وما أن نخسر شيئاً؛ حتى ننشر الفوضى، فعندما ينفذ الطعام في المشفى، تتشّكل عصابة يتزعمها «غاييل غارسيا برنال» مع ثلة من المجرمين والأقوياء جسدياً، ليتم نهب حصّة الضعفاء من الطعام، وتُرتكب بحقهم الأفعال الحيوانية ذاتها: الاغتصاب، الإهانة، القتل.

Blindness 7

هذا التحوّل بحاجة إلى ردّة فعل قاسية، وإلى إعادة ترتيب أوراق، وتنظيم جماعي. يحدث ذلك بمساعدة من المرأة التي لم تفقد بصرها أو بصيرتها، تتمكن من إيقاف هذا النزيف الإنساني، وتهريب سبعة غرباء أَصبَحوا –جوهرياً- عائلة واحدة الآن، تُوجِّههم إلى خارج المحجر الحيواني، تجاه منزلها في مدينة شهدت انهيار آثار الحضارة، مدينة سكنها الرعب، والذعر، والعمى الإنساني: شوارع مدمّرة، عمارات مهجورة، وسخ متراكم في الأزقة، وأشباه أناس يتخبطون في واجهات المحلات، وفوق الأرصفة، وبين ركام السيارات.

Blindness 6

في هذا الخروج السريالي، يسقط مطر. مطر شفاف وبارد يغسل الحياة من أدرانها، يغسل أجساد العميان، ويغسل أرواح السبعة الذين يلمسون الماء النقي للمرة الأولى، هذه الاحتفالية الباذخة هي أولى لحظات الفرح في الفيلم، وهي الأجمل بالنسبة إلينا كشهود عيان لأنها تغسل أعيننا التي أصابها التلف لساعتين.

Blindness 2

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى