ملفات خاصة

«فاتن» وضعت الجوائز في «درج مطبخها»!

مجدي الطيب يكتب لـ «سينماتوغراف»

عرفت فاتن حمامة (27 مايو 1931 – 17 يناير 2015) عن قرب أثناء التحضير لكتاب «سعيد مرزوق فيلسوف الصورة»؛ إذ لم يكن من الممكن الكتابة عن سعيد مرزوق من دون الحديث إلى الفنانة، التي شاركته عدداً من أهم أفلامه مثل : «أغنية الموت» (1973)، «أريد حلاً» (1975) و«حكاية وراء كل باب»، الذي ضم أربعة أفلام قصيرة هي : «ضيف على العشاء»، «موقف مجنون»، «النائبة المحترمة» و«أريد أن أقتل»، ووسط حالة من الرهبة لم تواجهني طوال سنوات عملي بالصحافة الفنية طلبتها على الهاتف الأرضي، بعد أن علمت أنها لا تتعامل مع الهاتف النقال، واستأذنت في الحديث إليها، وهاجس يتملكني أنها ستتهرب، كما يفعل النجوم، وتتذرع بأنها مشغولة، أو تطالبني بالحديث في وقت آخر!

  لم أصدق نفسي عندما فوجئت بها ترد عليَ، وتسألني بصوت خفيض عن سبب المكالمة، ولما أخبرتها أنني بصدد تأليف كتاب عن المخرج سعيد مرزوق، وأود لو حدثتني عن علاقتهما الفنية، تخلت عن تحفظها، ووصفته بأنه «يتمتع بحساسية فائقة، وهو يتعامل مع الكاميرا» وأنهت بقولها: «عبقري ورجل سينما من الطراز الأول، وواحد من أفضل من التقيتهم فهماً لطبيعة ووظيفة السينما ودورها» .

الصور الأخيرة في حياتها
الصور الأخيرة في حياتها

  واقعة كشفت لي عن التواضع الجم الذي تتمتع به فاتن حمامة، وشجعتني على معاودة الاتصال بها في فترة التحضير لكتابي الثاني عن «بركات زعيم المحافظين في السينما المصرية»؛ فقد ربطت بينهما علاقة وطيدة، على الصعيدين الفني والإنساني، دفعت المخرج الكبير إلى الاعتراف قائلاً :«أفلامي معها تفقد الكثير من رونقها لو نزعناها منها»، لكنني علمت أنها في رحلة علاج خارج مصر، ودعوت لها بالشفاء والعودة سالمة إلى أرض الوطن، لكن القلق تسرب إلى نفسي بعد ما علمت من الناقد الكبير سمير فريد أنها تراجعت، بسبب وعكتها الصحية المفاجئة، عن وعدها بقص شريط افتتاح معرض «بركات» في الدورة ال36ـ لمهرجان القاهرة السينمائي !

  حدث هذا مطلع نوفمبر الماضي، وعادت «سيدة الشاشة العربية» إلى مصر، بعد أن اجتازت وعكتها الصحية، لكن يبدو أنها لم تتعاف بشكل نهائي، ومن ثم غيبها الموت في الأيام الأولى من شهر يناير، بعد أن أصيبت بهبوط مفاجئ في الدورة الدموية، لتفقد السينما العربية، بغيابها، الأنموذج والمثال للفنان الذي يحترم نفسه وموهبته ومهنته فيجبر الجميع على احترامه، والنظر بعين التبجيل والتوقير لمهنته، ما دعا مؤسسة الرئاسة إلى إصدار بيان تنعي فيه «قامة وقيمة فنية مبدعة أثرت الفن المصري بأعمالها الفنية الراقية، وأضفت السعادة على قلوب جموع المصريين والمواطنين العرب بإطلالتها الفنية وعطائها الممتد وأعمالها الإبداعية، وظلت رمزًا للفن المصري الأصيل وللالتزام بآدابه وأخلاقه» وكان المشير عبد الفتاح السيسي قد قطع من قبل خطابه إلى الفنانين، وقت أن كان مرشحاً رئاسياً، بمجرد دخول فاتن حمامة إلى قاعة الاحتفال، وغادر مكانه على المنصة متجهاً إلى مكان جلوسها ليقدم لها التحية فيما تسابق عدد كبير من الفنانين للتصوير معها والترحيب بها،بعد فترة طويلة غابت فيها عن الأضواء .

فاتن مع المخرج سعيد مرزوق
فاتن مع المخرج سعيد مرزوق

  اختلفت مع المخرج سعيد مرزوق، وسجلت هذا في كتابي وهو مازال على قيد الحياة، عندما روى لي أنه توقف عن السعي وراء الجوائز بعد ما قالت له فاتن حمامة إنها تضع الجوائز التي حصلت عليها في “درج مطبخها”، وأزعجتني إجابتها، وقلت له  إن موقفها فيه ازدراء للجوائز، ومن يمنحها، لا يليق، لكنه دافع عن وجهة نظرها مؤكداً أنها كانت تؤمن أن الفنان لا ينبغي أن يعول كثيراً على الجوائز وحدها، وأن واجبه إمتاع الجمهور. وفي أعقاب رحيلها نشرت الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية صوراً لسيدة الشاشة العربية في منزلها بالتجمع الخامس، في منتجع القطامية، وكانت سعادتي كبيرة بأن عدداً من الجوائز التي تسلمتها في حياتها تتصدر الصورة ما يعني أنها تحتل مكانة كبيرة في قلبها، ولم تضل الطريق أو ينتهي بها الأمر إلى “درج مطبخها” !

فاتن .. والسياسة

   لم يُعرف عن «فاتن حمامة» أنها صاحبة مواقف سياسية، لكن المقابلة التي أجراها معها الكاتب الصحفي أحمد المسلماني في منزلها، وقت أن كانت تسكن في عمارة ليبون بالزمالك، ونشرت مجلة «أحوال مصرية» الجانب الأكبر منها قبل أن يعتمدها الدكتور وحيد عبد المجيد كمرجع في كتابه «الوطنية والتكفير السياسي»، تكشف لنا جوانب خفية أخرى في شخصيتها؛ فما لا يعرفه الكثيرون أن الطفلة فاتن أحمد حمامة، التي ولدت عام 1931 في بيت يُعني بالسياسة، شاركت كطالبة في المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني، ورغم أنها لم تعاصر ثورة ١٩١٩، ومات زعيمها سعد زغلول قبل مولدها، إلا أن الحديث لم ينقطع في منزل عائلتها عن تلك الثورة، وعن الزعماء : مصطفى النحاس، إبراهيم عبد الهادي، محمود فهمي النقراشي، علي وأحمد ماهر ومكرم عبيد، ومن تلك الأحاديث عرفت أن سعد زغلول كان زعيماً عظيماً التفت مصر من حوله بمشاعر حب صادقة وحقيقية .

  المثير أن ما قالته فاتن حمامة في حوارها عن «عائلتها التي كانت تميل إلي إبراهيم عبد الهادي أبرز أعضاء الكتلة «السعدية»، التي انشقت علي حزب الوفد، وانتسبت إلي سعد باشا زغلول» و«البيت الذي تربت فيه، ولم تكن له ميول وفدية، بدليل أن والدها لم يكن متحمساً يوماً للوفد» ثم تأكيدها أنها «كانت تكره الوفد لفرط ما سمعت عنه في منزلها» ينفي ما أشيع عام 1978، في أعقاب عودة حزب الوفد إلى الساحة، كامتداد لحزب الوفد القديم، الذي تم حله عقب قيام ثورة 23 يوليو 1952، بأنها «وفدية» الجذور والمنشأ والتربية، بل أنها قصت، في الحوار، رواية تبرر كراهيتها لحزب الوفد عندما أكدت أن شقيقها الضابط في الإسماعيلية كاد يُقتل، بسبب سياسة الحزب، الذي طلب منه، وزملائه، ضرورة الصمود بالبنادق في وجه دبابات الإنجليز، وكان شقيق فاتن حمامة ضمن الأبطال الذين سطروا أعظم صور الكفاح يوم الخامس والعشرين من يناير 1952،لكن «فاتن السعْديّة» لم تنس خوفها علي أخيها،وحملت حزب الوفد مسئولية الخطر الذي تهدده، ورفاقه .وعبرت عن هذا بقولها : «لقد نما عندي الشعور بكراهية الوفد والرغبة في الثورة عليه» !

  أما المفارقة الأكثر إثارة، التي نكشف عنها اعتماداً على وثيقة نادرة عبارة عن حوار أجرته مجلة «العروسة» مع الممثلة الشابة فاتن حمامة، أنها أقدمت، بعد إصدار قوانين يوليو الاشتراكية في العام 1961، على خطوة غير مسبوقة عندما أرسلت برقية إلى غرفة صناعة السينما أعلنت من خلالها موافقتها على تخفيض أجرها في الفيلم الواحد من سبعة آلاف جنيهاً مصرياً إلى ثلاثة آلاف جنيهاً فقط، ما أوغر صدر رفاقها في الوسط الفني ضدها لأنها تسببت في إحراجهم، وأجبرتهم على مجاراتها، والإعلان عن تخفيض أجورهم أسوة بها، إن لم يكن بنفس النسبة فعلى الأقل بنسبة قريبة منها، ولما سئلت عن السبب في الخطوة التي أقدمت عليها قالت: «من يؤمن بمبدأ عليه أن يبدأ بتطبيقه على نفسه» وأضافت : «أنا أؤمن بالنظام الاشتراكي.. أؤمن به وبنتائجه التي تنعكس على كل فرد من أفراد الشعب.. وإذا كنا نحن العاملين في الوسط السينمائي لا نطبقه فمن يطبقه إذن؟ إن الفنان هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى  للعديد من الناس فما ضرنا لو أخذنا المبادرة في سبيل الوصول إلى مجتمع أفضل» واختتمت ردها على هذه النقطة بقولها : «إننا في طور بناء، والبناء يحتاج إلى تضحيات. وأقولها بمنتهى التواضع انني لم أضح بشيء وما قمت به لا يعتبر تضحية مطلقاً انه عمل ايجابي يتناسب مع ثورتنا الاشتراكية البناءة» !

  المفاجأة أن محرر مجلة «العروسة» سألها في موضع آخر من الحوار عما إذا كانت قد استطلعت رأي زوجها ـ عمر الشريف الذي قالت وقتها إنه أشرف على الانتهاء من دوره في فيلم «لورانس العرب» ـ قبل اتخاذ قرار تخفيض أجرها فقالت بالحرف الواحد : «لا .. وعلى كل حال عمر لا يعترض قراراتي التي اتخذها في مجال عملي كما أنه يحبذ الاشتراكية مثلي تماماً، بل قد يكون أكثر» !

magditayeb58@gmail.com

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى