«فتاة مختفية».. سادية الرجل ودهاء المرأة
«سينماتوغراف» ـ أسمى العطاونة ـ باريس
تصدر فيلم الدراما والغموض «Gone Girl ـ فتاة مختفية» للمخرج دافيد فينشر، غالبية الترشيحات لجوائز الغولدن غلوب والأوسكار سواء من حيث الإخراج أو السيناريو أو التمثيل، وهو مأخوذ عن رواية لأديبة أميركية معاصرة هي جيليان فلين ويحمل إسم روايتها نفسه. ويتناول الفيلم وببراعة الواقع المرير لحالات طلاق وانفصال كثيرة تحدث بعد الدخول إلى «القفص الزوجي» في عصرنا الحديث، ونرصد من خلال هذا العمل مدى إجادة رسم شخصيات أبطاله ومعالجة أحداثة.
الحب يبدأ بقبلة
في فيلم «امرأة مختفية» ينقلنا فينشر للغز «الزواج السعيد» الذي لايلبث وأن يتلاشى ليصبح قفصا يستعبد فيه كل من الزوجين الآخر! ينبهنا فينشر منذ البداية إلى ما سيحدث للزوجين ومراحل الحب المختلفة التي ستتطور من الحرية والحب إلى العذاب والعبودية لدرجة أن البطل يرغب في قتل زوجته «المثالية» وترغب الزوجة في الانتقام من الـزوج “البارد والبليد والكسول” والذي يلجأ للخيانة ليجد لذته خارج «قفص الزوجية».
وفي أول مشهد للفيلم نستمع لصوت «نيك الزوج» يتحدث عن رغبته الملحة في «تحطيم جمجمة زوجته» التي تلقي برأسها في حضنه، ليعرف فيما تفكر وكيف وصل بهما الأمر إلى هذه الحال؟!.
يخرج «نيك» (بين أفليك) من المنزل في صباح يوم عيد زواجهما الخامس ليعود ويرى أن زوجته اختفت من المنزل بعد تحطيم وتكسير بعض الأثاث.
الفيلم مكون من فلاش باك منذ لحظة الاختفاء، ومن يدلنا على فهم الأحداث ومتابعتها هو صوت «آمي» التي تقوم بدورها الممثلة (روزاموند بايك) وقراءتها لدفترها الخاص حيث تسجل كل ما يدور بخلدها من أفكار كونها كاتبة، فتبدأ بالحديث عن اللقاء الأول لتحملنا عدسة المخرج إلى تصوير أجواء الـ«الزواج المثالي» في المجتمعات الحديثة والذي غالبا ما يكون فيه الزوجان مجرد «صورة مثالية» أمام المجتمع لديهما وظيفة رائعة «كاتب وكاتبة» «صحفي وصحفية» كما نرى من شخصيات الفيلم «آمي ونيك» المتحررين «جنسيا» حيث يمارسان الحب في الأماكن العامة بتحريض من «آمي» في حث زوجها «نيك» على ممارسة الحب عن طريق اللعب في «البحث عن الكنز» فلا تتوانى عن كتابة ألغاز تغلقها في أظرفة موزعة في أماكن مختلفة لايعرف سرها إلا كلاهما تاركة أدلة مثيرة «كملابسها الداخلية» في مكتب زوجها.
ومنذ اللحظة الأولى في المشهد الأول من الفيلم تحملنا عدسة فينشر إلى البدء في اللعبة حين يتعارف الزوجان على بعضهما من خلال مشاركتهما في حفل أصدقاء فلا يلبثا أن يبدءا في نسج الألغاز من حولهما فلا تمل آمي «التي تنقل صورة للمرأة قوية الشخصية والمستقلة والذكية» والتي لن تسمح لنيك بخداعها من خلال غزله «الظريف» لتلح عليه
بالسؤال «من أنت؟».
الروتين القاتل
حين ينتهي مشهد اللقاء الأول و«سحر الحب من النظرة الأولى» يحملنا فينشر لأول علامة ودليل نستطيع من خلالها التنبؤ بالمستقبل الخانق لل«الزوجين السعيدين» فنرى البطل والبطلة ينزلان في مصعد تشبه أعمدته الحديدية الصدئة «قبضان السجن» لينزلا من جو الاحتفال والبهجة إلى ظلام المدينة حيث تلح رغبة البطل الرومانسي «نيك» في أن يري «البطلة المسحورة» سرا من أسرار المدينة الباردة ليتوقفا عند خلفية «مخبز» تتناثر بودرة السكر البيضاء في الهواء لتغطي شفاه «آمي» ويقبلها نيك القبلة الأولى.
لاتدوم اللحظات الرومانسية إلا قليلا، فما يلبث البطل «نيك» أن يتهم بقضية اختفاء زوجته في عيد زواجهما الخامس بعد اختفائها، وبعد اتصاله بالشرطة للبحث عن زوجته. أدلة كثيرة تجعلنا نضع الزوج «نيك» في قفص الاتهام فورا، فهاهو يشرب البيرة رغم عدم معرفته بسر اختفاء زوجته وكأنه «فرح لاختفائها» ونراه يتجه الى البار الذي تعمل فيه أخته التوأم ليشرب ويلعب معها لعبة « «التنبؤ» ونرى أيضا بلادة الزوج وعدم اكتراثه بالبحث عن زوجته إلى حد يجعله يتواصل مع عشيقته ليلتقى بها في منزل أخته في نفس اليوم الذي يغلق فيه منزله للتحقيق في حادثة «قتل» قد توصله للموت في الولاية الذي يعيش فيها.
عدم اكتراث نيك يظهر أيضا عندما طلب منه الصحفيون الابتسام أمام صورة لإعلان اختفاء زوجته فيفعل لتستخدم الصورة فيما بعد كدليل ضده. وفيما يتعامل «نيك» مع خبر اختفاء زوجته ببرود نرى «آمي» تغلي غضبا وانتقاما من ما فعله به زوجها «من خيانة» و«استغلالها اقتصاديا» و«نفسيا» لتساعده في بناء نفسه، وتقدم له البار ليعمل فيه مع أخته بعد أن فقد عمله.
نيك يمثل الزوج الذكوري «اللامبالي» الخمول والبليد أمام «مسألة الاعتياد والملل» التي تصيب أي زوجين في مرحلة متقدمة من الزواج، رغما من وعده لها بأنه لن يدع الملل يدخل في حياتهما الزوجية. ورغم تضحيات آمي المهنية لتلحقه من نيويورك حيث الشهرة والنجاح إلى قرية صغيرة يعود إليها نيك لمساعدة أمه المريضة فتجد آمي نفسها زوجة محبطة بدون عمل وبدون أصدقاء وبلا أهل وقريبا بدون زوج.
قد يرى المشاهد في أفعال آمي ورغبتها الشديدة في الانتقام من زوجها البليد والأناني صورة لمرأة «مريضة نفسيا» وقد تكون كذلك كالعديد من النساء والرجال الذين يسيطر الحقد والانتقام على قلوبهم فيفعلون ما يمكنهم للحفاظ على كبريائهم الذي سلبه تصرف الآخر وإهماله، وقد تكون شخصية آمي كمرأة ناجحة «لا تقبل أن يدمر كسل زوجها وإهماله» علاقة زواج وعشرة وحب طويلة «ويظهر هذا من خلال مشهد تتفوه فيه آمي بعبارة «أنا امرأة محاربة ولن أقبل بالهزيمة».
وربما سنشعر بالشفقة على «آمي» ونتفهمها كونها ضحية منذ البداية لوالديها «اللذين يمثلان صورة لثنائي سعيد» بعكس فكرة الفيلم عن «فشل الزواج والثنائي السعيد» ومدى تمسكهما بصورة «آمي الرائعة» الخلاقة والكاتبة المبدعة التي يفتخران بها أمام المجتمع والأصدقاء متناسين تماما واقع ابنتهما المرير وزواجها الفاشل ليحتفظا بذلك بـ«شخصية» «آمي الرائعة» صاحبة الكتابات الشهيرة في نيويورك. العديد من المشاهدين قد يظلمون آمي ويتعاطفون مع «نيك» والعكس.
ولم ترحم الجمعيات النسوية فينشر من الهجوم والانتقاد لتمثيله للمرأة المستقلة والقوية والحديثة بهذا الشكل المأساوي والمريض ولكن ما تتناساه هذه الجمعيات هو الشخصيات الثانوية في الفيلم مثل الـ«محققة» السليمة نفسيا والمبدعة في عملها والتي تقود فريق التحقيق وتؤدي عملها باتقان ولكن صوتها لا يلبث وأن يخرسه رجال الـ«إف بي آي» خلال تصريحاتها بتساؤلات قد تؤدي الى الحقيقة في قضية اختفاء الزوجة؟! الشخصية الأخرى هي شخصية الأخت التي لاتتفانى ولو لحظة في الاعتناء بأخيها ورعايته وفي نفس الوقت توبخه وتصرخ في وجهه أمام عدم اكتراثه لاختفاء زوجته وممارسته للحب مع تلميذة صغيرة دون علم زوجته رغم كرهها الشديد لها، وكأن الأخت في الفيلم تمثل صوت الضمير لدى نيك وانعكاسه في مرحلة الضباب التي يعاني منها.
صورة الرجل
تظهر صورة الرجل في فيلم «فتاة مختفية» من خلال البطل «نيك» والأدوار الثانوية مثل دور مساعد المحققة «الأبله» والذي يكره «نيك» ويستغرب من دفاع المحققة عنه. وكذلك شخصية والد نيك «والمحتجز في دار للعجزة ليهرب وتجده الشرطية وتحاول الاتصال بابنه «نيك» لإعادته لدار العجزة. شخصية الأب التي تظهر لبرهة قصيرة جاءت لتعبر عن تصادف الأحداث. فخلال اجراء التحقيق مع نيك يتواجد والده في نفس المركز لأنه تائه وربما جاء لنرى فيما بعد ان منزله سيكون «مكانا» مهما في كشف الحقائق وراء سر اختفاء «آمي».
شخصية مهمة أيضا هي شخصية صديق آمي السابق والذي سيلجأ إليه نيك ليساعده في حل لغز الاختفاء المفاجئ لزوجته، ولكن دون جدوى. ويجب أن لاننسى أيضا دور المحامي الذي سيدافع عن نيك فيما بعد وهو محام مشهور ذو شخصية ذكية ومضحكة وجذابة تساعد في موارزنة الشخصيات كي لاتسيطر السلبية والعمومية على كل شخصيات الذكور في الفيلم.
الإضاءة والديكور
لقد اختار فينشر كاميرا ريد إبك دراجون والتي تستخدم لأول مرة في التصوير وتعادل تسعة أضعاف جودة الـ«إيتش دي» العادية، ولم يأت إختياره هذا محض الصدفة فأحداث الفيلم تدور أغلبها في أوقات الليل البارد وحتى الأماكن الداخلية كالمنزل ومركز التحقيق والمكتبة والبار ومنزل والد «نيك» ومنزل أخته وكلها أجواء متكتمة ومظلمة ذات ديكور «خانق» ومعتم لكي نعيش اللحظة ونشارك الأبطال في الفيلم سواء ثانويين أم جوهريين في لغز البحث عن البطلة، ولكي نعيش جو القفص الذهبي الذي يعكس تعاسة الزوجين وشعورهما المفرط بالملل. وفي لحظات متكررة نرى اسدال الستار واغلاق الابواب والصعود في سيارات التحقيق السوداء وسيارة البطل السوداء ايضا لكي نهرب مع البطل من ملاحقة «الفلاش العنيف» المنبعث من المصورين والصحفيين المتطفلين.
الإعلام والإنترنت
يحدثنا فينشر مرة أخرى وبعد أن سخر فيلما كاملا عن «الشبكة الاجتماعية» وعن فكرة الفيس بوك والشباب الذي يعكس جيل اليوم المحبط والذي يعاني من العزلة والإحباط ويفضل التواصل افتراضيا عن التواصل الحقيقي مع محيطه. نراه يعود ليلقى الضوء من جديد وعبر فيلم «فتاة مختفية» على الدور المهم الذي تلعبه مثل هذه الوسائط الافتراضية والميديا ووسائل الإعلام في التأثير على أكبر عدد من المشاهدين وعبر تغذية أخبارهم من معاناة الناس وهمومهم دون أي تحقق من صحة الخبر أوكذبه، ونرى مدى سرعة نشر الخبر ليصل إلى جميع أنحاء الولايات المتحدة ويصبح شاغل الصحافة والمحطات الإخبارية، ونستطيع ان نلمس فكرة فينشر هذه من خلال جمل تتفوه بها آمي عندما تخبرنا بأن الجمهور يحب المرأة ضحية الرجل العنيف وخاصة إن كانت “حاملا بطفل ونرى من خلال حديثها وسردها للأحداث مدى ذكائها في استخدام وسائل الإعلام لنيل التعاطف معها ضد زوجها «القاتل» والعنيف والذي لا يأبه بها وبجنينه».
ومن خلال الحرب الإعلامية تستطيع آمي أن تأسر قلوب الأميركيين وتستخدمها في الانتقام من زوجها، وبهذا نرى مدى واقعية فينشر في وصف الواقع الذي نعيش فيه وكيف يمكن أن تؤثر الحياة الافتراضية في إلحاق الضرر بأشخاص وظلمهم وحتى قتلهم بمجرد تناقل الخبر وعرضه على شبكات التواصل الاجتماعي.
تشويق هيتشكوك
فيلم «فتاة مختفية» حِكاية لا تدور حبكتِها في فراغ، بل تقوم على تشويق يذكرنا بفيلم ألفريد هيتشكوك “فيرتيغو” (1958). هل الزوجة مفقودة؟ مَن القاتل؟ الزوج؟ هل انتحرت؟ أم اختُطفَت؟ كل هذه الأسئلة شكّلت جزءاً كبيرأً من حصة التشويق والغموض التي أسرت الفيلم. الإحتمالات متعددة، تجعلنا نطرح أسئلة على أنفسنا بكل جدية. من هو ذلك الشخص الذي تزوجناه؟ هل يتصرف بصدق؟ أم إنه ممثل يبرع في دور الزوج المحب؟ .
وبالفعل اعتبر النقاد، بعد عرض «فتاة مختفية» ان هذا الفيلم سيشكل نجمة ذهبية في مسيرة المخرج الأميركيّ. معظم تقارير النقاد جاءت إيجابية، إذ رأوا أن الفيلم هو مشروع جائزة أوسكار، سواء لناحية تمثيل بن أفليك وروزاموند بايك، أو لناحية السيناريو كنص مقتبس. ومن يدري.. قد ينال أوسكار أفضل إخراج.