«فرحة».. حصد 3 جوائز لمقاومة إغتيال الأحلام
ـ إنتصار دردير
في مكان مظلم داخل منزل يتوسط قرية بسيطة، وعبر باب سدت شقوقه بالحجارة والطين، فيما نافذته الوحيدة بالكاد ينفذ منها النور، تبقى طفلة لأيام عالقة وهي بانتظار عودة أبيها، ومع الوقت تفقد الأمل ويجتاحها الغضب، بينما لا يفارق الخوف والشحوب وجهها، ومن خلال ثقب صغير في الجدار، تختلس النظر إلى العالم الخارجي، لتشكل مضمون العمل السينمائي الأردني «فرحة»، في تجربة أولى مع الفيلم الطويل لمخرجته «دارين ج. سلام».
في هذا العمل احتفاء عالٍ بالمرأة والإرداة والمقاومة والتحدي، والاشتغال على حكاية قد تبدو عابرة إلا أن الكتابة الذكية وتجاوز الهوامش وتعميق الأبعاد والدلالات منح الفيلم عمقاً أكبر.
فيلم «فرحة»، إنتاج (الأردن، السويد، السعودية)، يقدم نموذجاً مصغراً للإرادة البشرية في البقاء على قيد الحياة، ودرساً في الشجاعة والأمل من وحي أحداث حقيقية، عن الحق والانتماء والتضحية وعشق الأرض، واستحضار مواقف من زمن فات عبر عين شاهد لها، لتكون رسالة عزيمة ونضال إلى كل الأجيال.
كما يكشف عن كتابة احترافيه، ومخرجة تمتلك أدواتها في التعامل مع تلك المشاهديات التى تتطلب الكثير من الاشتغال على الزمن والإضاءة وإدارة المشهد وتصميمه، وأيضاً إدارة ممثلة شابة نتوقع لها الكثير خصوصاً وهى تتعامل مع الكاميرا بعفوية وبساطة متناهية.
فرحة هنا هي اختصار كل شيء. لمضمون الفيلم نفسه ولصانعيه، وما أروع أن يتم اختصار كل ذلك بشخصية محورية أساسية، تأخذنا من خلال اسمها إلى عالم آخر مناقض لمعنى ما تصف، وأجاد السيناريو رسمها، حيث رصد حلم فرحة ذات الـ 14 عاماً بالذهاب إلي المدرسة، على خلاف كل قريناتها اللاتى يكتفين بدروس حفظ القرآن في كتاب القرية الفلسطينية الصغيرة، وسرعان ما يتم تزويجهن في سن مبكرة، ترفض بطلة الفيلم بشدة فكرة الزواج وعادات القبيلة، رغم تطلع إبن صديق والدها لها، لكنها تصده، وتؤكد لأبيها رغبتها في الذهاب إلي المدرسة في المدينة، لتتعلم علوم الرياضيات والهندسة والكيمياء، حيث لا يوجد بالقرية مدرسة لتعليم الفتيات، بعد إلحاح طويل يفاجئها الأب بتحقيق حلمها، ويقدم لها ورقة تسجيلها بالمدرسة، وعليها أن تستعد للسفر، لا تصدق، تقفز من الفرحة وهي تخبر صديقتها المقربة فريدة بتحقق الحلم، بينما تتمرجحان تحت ظلال شجرة وارفة في قريتهما، ويسرح خيالها فيما ينتظرها داخل عالمها الجديد.
هكذا تأتى المشاهد الأولي للفيلم، وهي توحي بالأمل لفتاة صغيرة تقف على أعتاب الأنوثة، ذات وجه صبوح، تعي ما تريد، وتدافع عن أحلامها في وقت لم يكن للفتاة حق الإختيار (نهاية أربعينات القرن الماضي)، بينما يأتى النصف الثاني من الفيلم على وقع أصوات طلقات الرصاص، لتبدأ فصول أزمة بطلة الفيلم التى هى أزمة مجتمع لا يزال يناضل لاستعادة حقوقه العادلة.
لا تطرح المخرجة الأردنية «دارين ج. سلام» فيلماً سياسياً، ولا تحكي طويلاً في السياسة، وإنما تتخذ منحي إنسانياً من خلال بطلتها الصغيرة لترصد ما حدث عام 1948 من خلال عيون صبية.
إنفجارات متتالية ودبابات تظهر فجأة، ويسود هرج كبير، منازل تهدم وموت يسكن القرية ويصيب سكانها بالتوالي، لا تفهم الصغيرة على وجه الدقة ما يحدث، تجري وصديقتها وقد أصابهما الرعب، تدفعها أسرة صديقتها معها في السيارة، غير أن القلق يفزعها على أبيها فهي إبنته الوحيدة، تجري بحثاً عنه، يخبرها أن تذهب مع صديقتها ويعيدها للسيارة، لكنها تصر على البقاء معه وسط الفوضي العارمة التى ضربت كل أنحاء القرية، لا يجد الأب وسيلة لحمايتها سوي حبسها في قبو المنزل حماية لها وضماناً لعدم تعرضها لأذى، ويعدها بالعودة لكنه لا يعود.
من ثقب في حائط جدار، تراقب الطفلة بعينين مذعورتين وجسد مرتعش الأهوال التى يتعرض لها جيرانها، يبدو ليلها مثل نهارها، تنظر في أسي للورقة التى كانت حلماً والحسرة تعتصرها، ترقب كيف يقوم جارهم بمساعدة زوجته على وضع مولودها في العراء، ويقومان بإخفاء الطفل خوفاً من جنود الإحتلال الذين لم يرحموا النساء ولا الأطفال ولا حتى الشيوخ، تنطلق مدافعهم لحصد الأرواح دون تفرقة، وتتوالي عمليات التهجير لسكان القرية من أجل إخلاء منازلهم ومغادرة البلدة وإلا تعرضوا للقتل، بينما تتابع هي صوت المولود بعد أن تم إغتيال والديه، ويقدم جندي على التخلص من الرضيع بتعليمات من الضابط، ومع صراخ الطفل المتواصل الذي لم ينعم بحضن أمه يتراجع عن قتله ويتركه في العراء، يخفت صوته، تحاول الفتاة الصغيرة بكل قوتها كسر باب السرداب لإنقاذه، وتنجح في فتحه بعد محاولات مستميتة.
فرحة أو الطفلة الموهوبة كرم طاهر، هي بطلة الفيلم الحاضرة في معظم مشاهده، والمعبرة بصدق عن تحولات الشخصية وتقلباتها الحادة من الفرحة والسعادة إلي الحزن والإنكسار، واستحقت جائزة أحسن ممثلة في مهرجان أسوان لأفلام المرأة التى وجهتها لجنة التحكيم لها لبراعتها في تجسيد دورها، فرحة التى تحولت من طفلة الي إمرأة بعدما تفاجأت بعلامات البلوغ وهي محبوسة في القبو المظلم، تأتى في لقطة أخيرة بالفيلم، تقف بملابسها لتغتسل تحت مياه نافورة في محاولة للتخلص من أسوأ كابوس عاشته.
قصة «فرحة» لم تكن من خيال المخرجة، وإنما هي قصة حقيقية لفتاة فلسطينية تدعي راضية، عاشت كل هذه الأحداث التى رصدتها «دارين ج. سلام»، وتصدت لمهمة صعبة نجحت خلالها في تسليط الضوء من جديد على ما حدث خلال حرب 1948، وجاء في تيترات نهاية الفيلم أن راضية إستطاعت الفرار إلي سوريا أثناء الحرب، بينما لم يستدل على والدها وأغلب الظن أنه كان من بين ضحاياها، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يحصد هذا العمل في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة جائزتي أفضل مخرجة، وأحسن فيلم يورومتوسطي يتناول قضايا المرأة.
المثير بالفعل في فيلم «فرحة»، الذي عرض لأول مرة عالمياً في النسخة الـ46 من مهرجان تورونتو، وشهد «البحر الأحمر السينمائي» خلال دورته الافتتاحية عرضه العربي الأول، أن مدته على الشاشة 93 دقيقة، دارت 50 دقيقة من أحداثه كاملة داخل قبو المنزل، لا يظهر فيها سوي مشاعر البطلة المختلفة مع مجريات الأحداث بالخارج، ويحسب لمخرجته نجاحها في الحفاظ علي إيقاعه بحيث لا يشعر المشاهد بلحظة ملل واحدة، واستخدام زاويا مغايرة في كتابة السيناريو الذي حرص علي إظهار الأمل كطوق نجاة، مؤكداً أهمية تجاوز مختلف المحن مهما كان حجمها، وإبراز البعد الإنساني والمجتمعي بأسلوب فني متقن.