«فهرنهايت 451».. اعادة اكتشاف فيلم قديم عن الخوف من المستقبل
ـ خالد عبد العزيز
الخوف من المستقبل، والاحساس بالعجز نحو مجهول لا ندري عنه شيئاً، والاهم أن المستقبل ليس أفضل حالاً من الواقع.. بل أحياناً يفوق في بشاعته الحاضر والماضي أيضاً.. هذه الأفكار يبدو أنها طافت بشكل أو بأخر بخيال فرانسوا تروفو مخرج فيلم فهرنهايت 451 ومن قبله الروائي الأمريكي راي برادبري كاتب الرواية، التي حولها تروفو للسينما بالإشتراك مع جان لويس ريتشارد في 1966.
يرسم الفيلم المستقبل وكأنه أشد ظلاماً من الماضي وعصوره الوسطى.. الذي يتضح فيه أن الماضي أخف وطأة، والأغرب أنه كلما تقدمنا كلما أزداد إنحدارنا.. وكأن الحضارة والتقدم كانا في الماضي ومستقبلنا تركناه خلفنا مُكتفيين بلهاثنا نحو تقدم يشوبه الزيف.
جهل.. مشاعر ثلجية.. ذاكرة واهنة.. هل هذا هو المستقبل؟
تدور أحداث الفيلم حول المستقبل، وفيه تُحظر الكتب ويتم حرقها في حال وجودها وأعتقال من يقرأها باعتبار أن الكتب لا تؤدي إلا إلي مزيد من التعب والتعاسة فبقراءة البشر للروايات سيرغبون في تغيير حياتهم مما يؤدي إلى الاعتراض على حالهم، وهذا ما لا ترغب فيه السلطة بالتأكيد، والأهم انه بذلك سيصبح الجميع متساوون، لا أحد أفضل من أحد الجميع متساو القدرات العقلية وجميعهم في الجهل سواء.
يسير السيناريو في خطي سرد، الخط الأول واضحاً يدور حول «مونتاج» ضابط المطافئ وزوجته «ليندا».. مونتاج الذي يكتشف أن مغزى عمله في حرق الكتب ما هو الا وهم، وعلى الخط الآخر الذي يبدو واهناً جارة مونتاج الشابة التي تسعي للإيقاع به وتجنيده لضمه في صفوف معارضي حرق الكتب.
يبدأ الفيلم بمشهد سيارة المطافئ الحمراء تسير مسرعة بعد ان تلقت بلاغاً يُفيد بوجود مجموعة كتب في إحدى الشقق، فيتلقى صاحب المنزل اتصالاً هاتفياً من مجهول يطلب منه مُغادرة المنزل، وهنا نرى أن الكاميرا تقترب بخطوات مُسرعة وكأنها طبول حرب تدقُ تحذيراً. ثم تسير الأحداث لنكتشف أن المعركة ليست مع الكتب فحسب إنما المعركة ضد العقل والذاكرة والأهم الفرد المحكوم. فتزييف التاريخ سهلاً .. فجارة مونتاج تسأله «أصحيح أن في الماضي كان رجال المطافئ يطفئوا الحرائق بدلاً من حرق الكتب؟»، فيجيبها مونتاج بتلقائية تشي بأنه هو أيضاً ضحية التزييف وتبديل التاريخ «ولماذا نطفئ الحرائق.. فالمنازل مضادة للحرائق».
يرسم السيناريو الشخصيات وكأنها فاقدة لأي مشاعر إنسانية، فبشر المستقبل ليسوا كالماضي بل أشبه بدمية الثلج، لاتحوي سوى ابتسامة واسعة أما ما بداخلها فخواء تام، وكما أن الشخصيات فقدت الإحساس نجدها أيضاً فقدت الذاكرة أو التاريخ، فأغلب الشخصيات لا تتذكر أحداث الأيام السابقة وذلك بسبب الأدوية المُهدئة التي يتناولوها بأستمرار، لعل المشهد الذي يجد فيه مونتاج زوجته ملقاه على الأرض بعد عودته من العمل ويستعين بالاسعاف الذين يقومون بتغيير الدم بالكامل لتعود في الصباح وكأنها إنسانة جديدة لا تدري ماذا جرى بالأمس، والكابتن الذي نسى محادثته مع مونتاج التي جرت منذ بضعة أيام. كل هذه المشاهد تُعبر عن إنسان المستقبل الذي صوره تروفو.. إنسان مشوش فاقد للهوية وضحية للتزييف.
اكتشاف ومواربة
تتعقد حياة مونتاج بعد أن اكتشف لذة القراءة، وادرك الوهم والخديعة التي تقوم عليها حياته، فتتبدل علاقته بعمله، وهنا تصل الأحداث لذروة التعقيد، فنجد أنه عند سماعه لصافرة الإنذار يصعد السلالم على عكس زملائه وما كان يفعل سابقاً عندما كان يصعد وينزل من خلال العامود المعدني، في اشارة إلي بداية تكون حاجز سيزداد حجماً شيئاً فشيئاً وكلما واصل القراءة. كما أن حياته الشخصية تزداد توتراً، ويشعر بخواء زوجته وتهافتها أمام شاشة التليفزيون، فكل أملها من ترقية مونتاج أن تحصل على شاشة الجدار الثاني، وكأنها خضعت بكامل روحها في ثقافة استهلاكية لن تعبرها على الأطلاق. ويحاول مونتاج أن يُخفي تبدله عن زوجته، التي تضبطه مُتلبساً بالقراءة، بل نجدها في أحد المشاهد تقذف بالكتاب بعيداً وكأن الكتاب كائناً أجرب لا يستحق أن يُعامل بشكل لائق. إذا حللنا شخصية مونتاج وزوجته ليندا، سنفاجأ بعدم توافقهما، فكل منهما يبدو مهموماً ومحصوراً في دائرته الخاصة، فحينما ذاق مونتاج حلاوة القراءة أضطر إلى المواربة وإخفاء السر بعيداً عن أعين زوجته، على عكس ليندا التي ما ان اكتشفت حقيقة زوجها الذي يُخفي الكتب ويقرأها، لم تتوان لحظة عن الإبلاغ عنه، فهي حتى لا تتذكر متى واين تقابلا أول مرة، فاقدة للذكريات وبالتالي ليست لديها تقدير لأي مشاعر، فما يجمعها بمونتاج علاقة ظاهرية فقط أما باطنها خواء تام، وذلك نتيجة طبيعية للأنغماس في حياة المجتمع الإستهلاكي الذي هو في واقعه أشد قمعاً من الحاضر. ونجحت جولي كريستي في آداء دور الزوجة بإتقان يضاهي اوسكار وارنر الذي يكفيه مشهد قراءته للكتب والعرق يُغطي جبهته، ومحاولته قراءة الكتاب وكأنه يتعلم الهجاء .
دلالة اللون
اللون الأحمر هو المسيطر على الصورة، تقريباً لا تخلو منه، رغم أن ثياب مونتاج ورجال المطافئ سوداء في اشارة للظلام الذي يقومون بإفشاءه، إلا أن اللون الأحمر يظل بطل الصورة، سيارات المطافئ ألوان الحوائط وصندوق المعلومات كل هذا باللون الأحمر، وجدران المدرسة مُطعمة بالأحمر.. كما أن القطع المونتاجي للقطات يتلون باللون الأحمر الذي يُغلف الشاشة مع انتهاء المشهد و بداية المشهد الآخر الذي يليه.. ويبدو أن تروفو أراد أرسال رسالة بصرية لا تخطئها عين المشاهد، فاللون الأحمر هنا يشير إلى اللهب والاحتراق أو كما أجاب مونتاج على سؤال جارته «ما الذي يُشير إليه رقم 451 ؟»، فيجيبها ببساطة «بأنه الرقم الذي تحترق عنده الكتب».
رسم تروفو مشهد حرق المنزل الذي يحوي الكتب مُتأثراً بالتاريخ المسيحي القبطي، فالسيدة صاحبة المنزل التي تقف بين أكوام الكتب مُتحدية بنظراتها اللا مبالية رجال المطافئ، تصرُ على الموت برفقة الكتب، وكأنها تقلدت وسام الشهادة مثل المسيحين الأوائل، وأعتقد ان نيرون كان حاضراً بشكل ما في ذهن المخرج عند تخطيطه للمشهد..
الخلاصة
المستقبل شديد الظلام، وهذا ما أراد تروفو أن يُرسله صراحة، فالحاضر الذي نظن أنه انحداراً، نرى المستقبل أكثر منه انحداراً ولا يغلفه سوى اللون الأسود الظلامي ورائحة الكيروسين التي تحرق الكتب. والملاحظة الوحيدة على السيناريو أن الأحداث بعد اكتشاف مونتاج والإبلاغ عنه كان إيقاعها سريعاً، مما ادى إلى الاحساس بعدم التشبع، وكان من المفترض أن تكون الأحداث أكثر بعد اكتشاف أمره، كأن يتم التركيز أكثر على هروب مونتاج، بدلاً من أن تتم النهاية بهذا الشكل، الذي يشعر المشاهد معها وكأنه تم تصويرها على عجل.
عالم بدون كتب.. عالم فارغ خالي من المشاعر، فاقد لأي ذاكرة، مثلما يقول مونتاج لزوجته ليندا «علي أن اقرأ وعلى اللحاق بذكريات الماضي».. إذا كان المستقبل بهذه الصورة .. فإني أفضل البقاء في الحاضر حتى لو كنتُ وحيداً.