«فى بيتنا رجل».. شهر رمضان وطقوسه قبل نصف قرن
«سينماتوغراف» ـ انتصار دردير
هل تريدون قضاء سهرة رمضانية مع فيلم مصري ومن إنتاج الستينات؟، عمل سينمائي جميل ورائع وهاديء، ويعكس بوعي ما بين طقوس شهر رمضان في ذلك الوقت والفن، وفيه نخبة من كبار الممثلين أمثال: عمر الشريف، رشدي أباظه، زبيدة ثروت، حسين رياض، حسن يوسف، زهرة العلا، وغيرهم.
يظل فيلم «في بيتنا رجل» علامة بارزة في تاريخ السينما المصرية ومن أشهر أفلام المخرج الكبير بركات الذي أخرجه عام 1961 عن قصة الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس، وقد وظف شهر رمضان دراميا ضمن أحداثه، فنحن أمام إبراهيم حمدي (عمر الشريف)، أحد الثور الذين قاموا باغتيال سياسي خائن متعاون مع الإنجليز، ولا يجد إبراهيم حمدي أي مكان يذهب إليه سوى منزل تلميذ صديقه في الدراسة، ولا علاقة له بالسياسة (حسن يوسف)؛ حتى يكون بعيدا عن الأعين.
يهرب إبراهيم حمدي من المستشفى الذي كان قد نقل إليه في ميعاد إفطار رمضان حيث يكون الجميع مشغولين بالإفطار، ونشاهد بالفيلم مدفع رمضان الشهير يعلن عن وقت الإفطار كما كان متعارفا عليه في مصر، دون الدول الإسلامية الأخرى. ويذهب إبراهيم ليختبئ في بيت زميله فيجد الأسرة جميعها على مائدة الافطار في مشهد رمضاني مألوف، ليكون هذا المشهد تجسيدا حيا لشعور الأسرة بقدوم طارئ، فمن هذا الذي يدق الأبواب وقت إفطار رمضان؟، وعندما يود الهروب من أعين البوليس الذي عرف مكانه، يختار أيضا ميعاد الإفطار لخلو الشوارع من المارة.
وجاء استخدام شهر رمضان في هذا الفيلم متلائما مع التطور الدرامي في العمل وليس مجرد ديكور، لأن أحداث الفيلم دارت خلال شهر رمضان الذى يحتل مكانة خاصة فى قلوب المسلمين فلم يكن شهر رمضان حاضرا بقوة فى الأفلام السينمائية قبل ذلك باستثناءات قليلة، لذلك يبقى «في بيتنا رجل» هو أفضل الأفلام التى عبرت بصدق عن ملامح هذا الشهر الكريم.
كتب السيناريو والحوار للفيلم الأديب يوسف عيسى صاحب الاتجاه الرومانسى فى كتاباته، وحفل الحوار بلغة خاصة عبرت عن قصة حب البطل التى ولدت فى ظروف مثيرة، وربط المخرج شديد الرقي هنري بركات بمهارة الجراح بين شريان الوطنية وشريان القلب وجعل الدم يتدفق حارا في عروقنا، وجعلنا نعايش أيام وليالي هذه الأسرة ومواقفها، ولا ننسى لحظة واحدة الشهر الفضيل وكرمه وقدسيته التي تهيمن على تصرفات الجميع وتعكسها أحداث الفيلم في ذلك الوقت.
بطل الفيلم (ابراهيم حمدى) الطالب الجامعى المشتعل وطنية يقوم بالانتقام من رئيس الوزراء العميل للانجليز ويغتاله، ويتعرض فى السجن لأبشع أساليب التعذيب وينقل للعلاج بأحد المستشفيات وينجح فى الهرب بمساعدة زملائه، فيختار وقت الافطار فى رمضان الذى تخلو فيه الشوارع من المارة ليدق باب بيت زميله بالجامعة (محيى زاهر) البعيد تماما عن السياسة، تفاجأ الأسرة به ويرتبك الجميع، وبقلب الأب يوافق حسين رياض على استضافته وتجتمع الأسرة المكونة من الأب والأم «ناهد سمير» والابنتين «زبيدة ثروت» و«زهرة العلا» لاتخاذ التدابير اللازمة حتى لاينكشف أمر الجميع خاصة مع حالة الطوارئ التى فرضها البوليس السياسى واعلانه عن مكافأة كبيرة لمن يدلى بمعلومات عن المدعو ابراهيم حمدى.
تتوالى الأحداث ويشعر عبد الحميد ابن عم محى بمحاولات الأسرة إخفاء شئ عنه، ويكتشف وجود ابراهيم فيذهب للبوليس السياسى للابلاغ عنه والحصول على المكافأة لكنه يتراجع مع ظهور إبنة عمه التى هرعت وراءه قبل أن يصرح بشئ، وكان ذلك كفيلا بوضع الأسرة تحت المراقبة، وفى خط مواز تقع الابنة الصغرى نوال فى حب ابراهيم الذى يقرر الهرب خارج مصر، وحينما يعلم بالقبض على محى وابن عمه عبد الحميد يلغى سفره، ويقوم بعملية فدائية كبيرة يحرق فيها معسكرا للانجليز بالعباسية ويستشهد خلالها، وقد عكس الفيلم ملامح شهر رمضان فى تلك المرحلة الزمنية فى المجتمع المصرى حين تجتمع الأسرة لتناول الافطارويحل ابراهيم ضيفا عليها، وتطلب الأم من ابنتيها مساعدتها فى اعداد المائدة وتنظيفها بعد الافطار، خاصة بعد أن اضطرت لطرد الشغالة الصغيرة حتى لاتكتشف وجود ابراهيم حمدى، وتستعرض الكاميرا هروب البطل خلال ساعات الافطار وقد بدت الشوارع خالية من المارة، ودخوله المنزل الهادئ، وعبرت بعض المشاهد عن سهرات رمضان فى تلك الفترة التى لم يكن فيها جهاز التليفزيون قد بدأ ارساله فى مصر، وكان الراديو هو مصدر الأخبار والتسلية فى حياة المصريين وهو الجهاز الأهم والأخطر فى بيوتهم، وكانت الأسر تتزاور لقضاء سهرات رمضان معا كما فى مشهد حضور (عبد الحميد ـ رشدى أباظة) لقضاء السهرة فى بيت عمه.
وقد حقق الفيلم نجاحا جماهيريا واسعا، وذلك لمساحة الصدق الكبيرة التى يتمتع بها سواء على مستوى القصة أو الأداء التمثيلى الذى تبارى فيه جميع ممثليه بدءا بعملاق التمثيل الكبير حسين رياض ومرورا بعمر الشريف ” شفاه الله ” وزبيدة ثروت وزهرة العلا ورشدى أباظة الذى لم يتردد فى تقديم هذا الدور الأقل مساحة من بطولاته السابقة لايمانه بجدوى هذا العمل الفنى الكبير.