مراجعات فيلمية

فيلم «عرس الشوك».. ملاحظات تحليلية

«سينماتوغراف» ـ صلاح سرميني

تبدأ المخرجة التونسية “ميرفت مديني كمون” فيلمها الروائي القصير “عرس الشوك”، وتُنهيه بمشهدٍ حلميّ/غرائبيّ يجمع بعض الشخصيات النسائية الرئيسية، ميتةٌ، أو في حالة احتضار معنويّ، تنتظر مصيراً مجهولاً مع كلّ إسقاطاتها المجازية المُستوحاة من الواقع المُعاش في تلك الفترة من انطلاقة الربيع العربي في تونس.

البناء السردي، والسينمائي للفيلم يجعلنا نعتبر ذلك المشهد بكلّ تفسيراته ـ التي لا تحتاج إلى تفسير ـ بمثابة قوسين كبيرين (….)، بداية/نهاية، افتتاحية/خاتمة، يتخللهما مقتطفاتٍ من الحكايات اليومية العادية التي يمكن أن تحدث في كلّ بيت، وما حدث للصبية “بايّا” في ليلة زواجها، واغتصابها من طرف زوجها الذي كشف عن نواياه، ليس بعيداً عما حدث في البيت الكبير، تونس. ‎

في بداية الفيلم إشارة إلى تاريخ محدد من شهر نوفمبر 2011، ومنه تستمر أحداث حياة يومية مألوفة لعائلتين في تونس، وتحضيرات الطرفين لحفل زواج “بايا”، و”يوسف”.

يتخلل تلك المشاهد الداخلية (بدون إهمال ما يحدث في الخارج) إشارات صوتية، أو بصرية مختزلة تكشف عن بعض أفكار، ومواقف فكرية لكلّ شخصية، ويبدو بأن الاختلافات، والتوافقات لم تمنع العائلتين من التقارب بينهما، وعلى العكس، تبدو فكرة الزواج رغبة مشتركة للتعايش.

ولكن، ما لم يكن في الحسبان، هذا التغيير المُفاجئ عند الزوج، وبالتحديد في ليلة الدخلة، بعد أن أصبحت “بايا” واحدة من ممتلكاته، ولم تعدّ ابنة أبيها، أو عائلتها.

لم يترك الزوج أيّ فرصة لأحد، يجرّ “بايا” غنيمته مثل الخروف، ويمارس حقه في (اغتصابها)، فعلٌ دلاليّ ماديّ، ومعنويّ، وغريزيّ يجعله منتشياً بملكيته لها.

بعد تلك الليلة، تغيّر كلّ شيء على المستوى الفردي، والعائلي، والمجتمعي.

لقد تحول الحلم إلى كابوس، والفرح إلى مأتم، وخلال ثواني من الزمن السينمائي المُكثف، يقدم الفيلم لقطة مؤلمة، جارحة، ومرعبة، “بايا” في غرفة مستشفى، … تحتضر.

منذ تلك اللقطة، تغيرت مسارات الفيلم، ورُبما يستعد المتفرج لمُشاهدة فيلم رعب.

في لقطةٍ واحدة من الفيلم تكشف “ميرفت المديني كمون” عن التحوّل الجذري الذي عاشته تونس في بدايات الربيع العربي.

في مشهد الفرح، وفي إحدى لقطاته المفصلية، نشاهد العروس “بايّا” ترقص مبتهجةً بزواجها (وربما مجازياً برحيل النظام السابق)، وفي خلفية مُعتمة، وضبابية، تظهر أشباح مجموعة من الرجال الملتحين، يغطون أجسادهم بجلابيات بيضاء غريبة عن المكان، والزمان، العريس بينهم ببدلته الأوروبية، ويبدو بأن نظاماً آخر سوف يسيطر على أجواء الفرح الحقيقي/ المجازيّ، ولن ينتظر المتفرج طويلاً حتى يتقدم العريس مع المجموعة من خلفية اللقطة إلى مقدمتها، أو بالأحرى من العتمة، والضبابية إلى المساحة المُضاءة.

 

منذ تلك الليلة، ليلة الأمل المُنتظر من تونس جديدة، سوف تفقد العائلة سيطرتها على حفل الزواج، وتتراجع سلطة الأب، وسوف يستولي العريس على السلطة بمُساعدة مجموعة الملتحين، ويتحول الزواج إلى اغتصابٍ شرعيٍّ بعقدٍ رسميّ، وشهود.

ومنذ تلك الليلة أيضاً، سوف تتغير أحوال العائلة التي كانت تعيش أجواءً من الوئام، والانسجام، ويتحول العرس إلى مأتم، ومشهداً سوريالياً يجمع بعض الشخصيات تنتظر مصيراً مجهولاً.

ومن يُدقق في خلفية الصورة أعلاه، سوف يشاهد وجهاً شبحيّ الملامح لرجلٍ ملتحٍ يقف خلف باب غرفة في مستشفى يراقب، ويرصد ما يحدث داخلها، هو زوج “بايا” الراقدة في حالة احتضار/ولادة، أو بالأحرى من قتلها (معنوياً) منذ اللحظات الأولى التي اجتمعا فيها تحت سقفٍ واحد، بعد حفلة عرسٍ دموية، أحدثت تحوّلاً جذرياً في تاريخ العائلة، وبدلاً من الوقوف بجانب زوجته، نجده قد تحول إلى مراقب على جريمة ارتكبها قبل شهور عن طريق زواج أقرب إلى الاغتصاب.
تبدو هذه الصورة بتكوينها الكابوسيّ، وكأنها مقتطعة من فيلم رعب، وهي بالفعل تُحيل إلى بعض تفاصيل بصرية يستخدمها ساحر الرعب الإيطالي “داريو أرجنتو”، حيث نجد في أفلامه لازمةً تتكرر غالباً، قبل، أو بعد لحظاتٍ من جريمة تحدث خلف ساتر زجاجيّ، نافذة، أو باب، وهناك غالباً شخصية ما، المجرم، أو الضحية، أو حتى شاهدٌ غريبٌ عابر، يراقب، ويرصد.

في بعض مشاهد الفيلم علاقاتٌ سردية دلالية متضادّة بين خلفية الصورة، ومقدمتها، ويحسم بينهما ضبابية الخلفية، مع مقدمة واضحة، أو العكس.
ومن أجل توضيح فكرة الاستخدام الإبداعي لوظيفة ال Flou، سوف أستعين بصورتين مأخوذتين من مشهد حفل الزفاف، حيث كلّ شيءٍ يسير على ما يرام من طرف عائلتيّ الزوج، والزوجة، ولكن، مع القليل من التدقيق في تفاصيل المشهد/الصورة، سوف نلاحظ “بايا” ترقص، بينما تظهر في خلفية المشهد/الصورة مجموعة من الرجال المُلتحين، يرتدون جلابيات بيضاء، ومعهم الزوج.

هذا التناقض ما بين الحدث في مقدمة الصورة، وتعارضه مع ما يحدث في العتمة/خلفية الصورة، يجعلنا نتساءل عن أسباب تواجد هؤلاء الملتحين، وملامح احتجاج، وغضب على وجوههم، وحركاتهم.
سرعان ما تعود خلفية الصورة إلى وضوحها، وتكشف تماماً عن الحدث الذي كان يجري في العتمة، حيث يتحرك الزوج هائجاً، ويتقدم نحو “بايا” كي يمنعها من الرقص.

منذ تلك اللحظة الصدامية، سوف تتغير مسارات الأحداث، وتنتقل الشخصيات التي كانت تقبع في خلفية المشهد إلى مقدمته، وما كان مختبئاً في العتمة أصبح في وضح النهار.

 

ميرفت مديني كمون: مخرجة تونسية حاصلة على درجة الدكتوراه في الفنون، وعلوم الفنون (جامعة السوربون باريس)، كاتبة، ومحاضرة، شاركت في العديد من الندوات في تونس، وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية، صدر لها أول كتاب “يوسف شاهين، كاميرا جميع المعارك” في عام 2010، في عام 2014، أخرجت فيلمها القصير الأول بعنوان “نجمة”، وحصل على جائزة في مهرجان مومباي السينمائي الدولي عام 2017، “عرس الشوك” فيلمها القصير الثاني.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى