«وداعاً» لمحمد رسولوف.. فيلم عن ظلمة القلب عندما يضيع الوطن
«سينماتوغراف» ـ مسعود أمر الله آل علي
يتناول فيلم «وداعاً» للمخرج الايراني محمد رسولوف، شخصية «نورا ـ ليلى زارع» وهي زوجة شابة ومحامية تم سحب رخصتها، حامل في شهرها السادس، تعيش في شقة شبه داكنة ضوئياً، والمساحات فيها تكاد تكون خانقة وحادة، زوجها مطلوب وهارب إلى الجنوب الإيراني بسبب نشاطه الكتابي المعارض، وتعيش مع سلحفاة صغيرة يعاني حوض الماء الذي تعيش فيه من تشققات بسيطة، ولكنها تهرّب الماء إلى الخارج، أي أننا أمام حياة كائنين يعيشان حياة معزولة، وصامتة، ولكنها مليئة بالثقوب.
الزوجة التي تتردّد باستمرار على مستشفى لمراقبة حالة الجنين، راغبة في إجهاضه، تعيش في حالة من الدوران والتوهان ما بين الزوج الهارب، الجنين الذي يتشكّل، المشافي التي لا تنتهي، ومحاولة البقاء من خلال ما تخيطه لتعتاش منه، وأيضاً محاولة إصدار جواز سفر مزور لزوجها لتنفيذ عملية هجرة أشبه ما تكون بالمستحيلة حينما يتم استنزافها مادياً.
هي تكاد تملأ مساحة الفيلم بأكمله «100 دقيقة»، مع بعض الشخصيات النسائية، ولكن حضورها يائس، وصامت، ومفرّغ من الحياة والفرح. تعيش الوحدة القاتلة، مطارَدَة ومستفزَّة، لكنها عنيدة ومثابرة وقابلة لهمجية الآخرين. تعيش في زوايا الشقة، إما مستلقية أو عاملة، أو ساهمة في اللامكان. تجد في عينيها بريقاً خافتاً يصاحبه حزن مدفون، وتجد في بيتها وحدة جافة وهالكة تخاله قبر. تُعلّق على الجدار صورة لطفل رضيع تجد فيها ملاذاً وحلماً ستخسره قريباً لأجل ترتيبات السفر.
في أحد المشاهد المؤثرة؛ تقوم «نورا» بإزالة لون الأظافر في المترو؛ وكأنها تمسح الفرح ولون الحياة؛ وربما الأنوثة. هي جميلة أصلاً، وتكافح لوحدها ضد كل هذه المعضلات التي تتوالى عليها؛ وعملية الوحدة هذه لا تقتصر على البشر فقط؛ ولكن حتى من خلال جهاز استقبال القنوات التلفزيونية الذ يتم مصادرته أمامها.
في مشهد آخر مطوّل، يقتحم البيت رجال شرطة بحثاً عن مقالات الزوج؛ نجد «نورا» باردة، مطيعة، ليس لأنها خائفة، ولكن لأنها ترغب حقيقة في تنفيذ خطتها في الخروج. تقف إلى جانب الرجلين؛ تنظر إلى ما يفعله أحدهما بتقليب محتويات البيت؛ بينما نجد أمها التي صادف أن أتت في زيارة قصيرة، تحضّر بعض لوازم الضيافة من شاي وفاكهة، ووجود الأم هنا ربما لإضافة بعض المؤازرة لحال المرأة.
رسولوف الذي سبق وأن أمتعنا في «جزيرة حديد» و«السهوب البيضاء»؛ حيث الكاميرا تنسج من فضاء المكان المفتوح قصيدة بصرية ممتدّة؛ يركن هنا إلى كاميرا منمنمة، وزوايا مكرّرة لإحداث نوع من الخناق على المشهد والمُشاهِد، وحصره في ضيق حياة «نورا» حيث اللون داكن، والإضاءة شحيحة، ويصعب معها في أحايين كثيرة تمييز الزمن إن كان صباحاً أو ليلاً، كما يرصد تفاصيل كثيرة، وأهمها يكمن في الباب الذي يرمز للخروج، والشبابيك التي دائماً ما تأتي في خلف المشهد، والسلحفاة الصغيرة التي تضيع في قلب البيت، و«نورا» في قلب الوطن؛ وظلال الأشياء تبرز بكثافة تحسبها من لحم ودم.
وإن كنا قد ألفنا الوحدة والظلمة طوال الفيلم؛ فلأننا ننساق إلى أجواء «نورا» في تعبها اليومي، وفي محيطها الصغير والمكشوف على العزلة، وهو ما نجح في توصيله المخرج رسولوف؛ بلغة سينمائية هادئة، وإيقاع بطيء جداً يحيل الزمن إلى فتات عليك تركيبه في داخلك لأن تتساوق مع ما يتركّب في الفيلم.
يُعاني الفيلم من بعض التطويل، وربما بحاجة إلى إعادة مونتاج، وخاصة في المشاهد التأسيسية التي تأخذ وقتاً طويلاً لكي يتم صياغة القصة، وفهم مجرى الأحداث؛ ولا نعرف الظروف التي تم فيها مونتاج العمل؛ ولكن ما نعرفه بالتأكيد أن الفيلم يُراهن على رسم صورة معاصرة للواقع ولحياة الإنسان؛ سواء أكان قابعاً في منزل؛ أو تائهاً في مترو؛ أو مشتتاً بين مكاتب أو حتى مكتوماً في فراش.