أحداث و تقارير

في ذكرى الاحتفاء بمرور 80 عاماً على عرضه.. «المواطن كين» في عيون هوليوود

الوكالات ـ «سينماتوغراف»

كثيراً ما تحتل بعض الأفلام مراتب متقدمة في قوائم العشرة الأفضل أو المئة الأفضل في أعقاب تحقيقها نجاحا في شباك التذاكر. ولكن قليلا منها فقط هو ما يبقى في الصدارة مع مرور السنوات. من بين هذه الأفلام “المواطن كين” (Citizen Kane) الذي يصادف الـ 30 من أبريل ذكرى عرضه الأول في دور السينما الأمريكية في عام 1941، والذي لا يزال، رغم مرور أكثر من ثمانين عاما على إنتاجه، يعد واحدا من أعظم ما أنتجت هوليوود – إن لم يكن الأعظم على الإطلاق.

يقول رايان لينتلمان مدير قسم الترفيه بالمتحف الوطني للتاريخ الأمريكي في حوار لمجلة سميثونيان “اتجاهات النقد السينمائي اتجاهات عابرة تغدو وتروح. ولذلك فإنه من المثير للاهتمام أن هذا الفيلم بالذات اعتبره النقاد في مختلف أنحاء العالم وعبر السنين فيلما أمريكيا عظيما، بل وربما الأعظم على الإطلاق“.

هناك العديد من العناصر التي اجتمعت معا لتحفر مكانة “المواطن كين” ومكانة مخرجه وبطله الذي شارك أيضا في كتابة الفيلم، أورسون ولز، في تاريخ هوليوود.

كان ولز يبلغ من العمر 24 عاما عندما تعاقد مع شركة آر كي أو لإنتاج الفيلم، ولم يكن قد أخرج أو مثل في أي فيلم سينمائي من قبل، ومنح بموجب العقد مطلق الحرية الفنية والإبداعية.

كان “المواطن كين” بمثابة عمل تجريبي حاد فيه أورسون ولز عن الأساليب التقليدية للإخراج، وابتكر الكثير من الوسائل الفنية التي تأثر بها مخرجون مشهورون على مر العقود.

يقول ولز نفسه إنه لم يلتزم بالأساليب المتعارف عنها، ببساطة لأنه لم يكن على دراية بتلك الأساليب.

كما أنه ضرب بعرض الحائط واحدا من الاعتقادات السائدة في عصره بأنه ينبغي الاستعانة ببطلات شهيرات لضمان نجاح الفيلم – فمعظم أبطال الفيلم نساء ورجالا لم يكونوا معروفين في ذلك الوقت.

رغم أن اللافتة الموضوعة خارج القلعة في بداية الفيلم تقول بوضوح “ممنوع الدخول بدون إذن”، إلا أن الكاميرا تقتحم المكان وتأخذنا معها إلى فراش موت تشارلز فوستر كاين الذي يتفوه بكلمة “Rosebud” ثم يلفظ أنفاسه الأخيرة.

وفجأة، ينتقل بنا الفيلم إلى شريط إخباري يحاول تلخيص قصة حياة المليونير وقطب الصحافة كاين، الذي كان في وقت من الأوقات يتمتع بنفوذ كبير، ثم فقد معظم ثروته خلال فترة الكساد العظيم، وتحطمت طموحاته السياسية على صخرة الخيانة الزوجية، وتهاوت إمبراطوريته ومات وحيدا.

الشريط لا يروق لرئيس تحرير إحدى الصحف، فيقرر تكليف أحد مراسليه بمهمة اكتشاف معنى كلمة كين الأخيرة، التي يعتقد أنها حتما تحمل في طياتها سرا مهما في حياته.

نتعرف من خلال تحقيق المراسل على بعض ملامح شخصية كين وأبرز المحطات في حياته من وجهة نظر أشخاص كانوا مقربين منه.

تقرر والدة كين إرسال طفلها الذي لم يتجاوز الثامنة من العمر إلى مدرسة داخلية وتضعه تحت وصاية مدير أحد البنوك، بعد أن أصبحت الأسرة ثرية بشكل مفاجئ.

يستلم كين ثروته الضخمة في سن الخامسة والعشرين، ويشرع في امتلاك إحدى الصحف التي يقول إنه سيعمل على استخدامها في الدفاع عن حقوق المطحونين في النظام الرأسمالي، ويبدأ في ذلك بالفعل.

يتزوج من ابنة أخ رئيس البلاد، ثم يزداد نفوذه بشكل تدريجي، ولكنه يفقد في الوقت ذاته مثالية الشباب، ويبدو غير مكترث بانتشار الفاشية في أوروبا.

يخفق كين في محاولة تولي منصب سياسي بسبب خيانته لزوجته مع سيدة تصبح فيما بعد زوجته الثانية. تتدهور علاقته بمن حوله، ثم يموت وحيدا.

قصة رجل يضع الثروة والنفوذ فوق كل شيء آخر ويعيش تعيسا ثم يموت وحيدا هي دراما وتراجيديا إنسانية تصمد رغم مرور السنين، وقد تأثر بها العديد من الأفلام الشهيرة منذ ذلك الحين، كما أنها أفسحت المجال للمزيد من شخصيات البطل الشرير الذي يتعاطف معه المشاهد.

يبدأ الفيلم بمشهد موت البطل، ثم شريط إخباري يشرح حياته بأكملها، وهو أسلوب على الأرجح أثار حفيظة رواد السينما في ذلك الوقت، إذ كانت أحداث الأفلام حينها تسير وفق ترتيب زمني مباشر من البدايةـ مرورا بالذروة، ثم الخاتمة. هذا التكنيك استعمله ويليام شكسبير، الذي أخبرنا في بداية مسرحيته الشهيرة “روميو وجولييت” أن البطل والبطلة سينتحران.

ومثلما لم تفسد هذه الطريقة متعة قراءة أو مشاهدة “روميو وجولييت”، لم يكن لها تأثير سلبي على “المواطن كاين“.

لا يكاد المشاهد يلتقط أنفاسه، حتى تباغته قصاصات سردية أخرى على لسان بضع شخصيات كانت مقربة من كين – كصديقه السابق ومدير أعماله وزوجته السابقة – تبدو للوهلة الأولى مفككة ولكنها ليست كذلك على الإطلاق. فأفكار الفيلم، على حد وصف صحيفة “Fort Worth Star Telegram” في عددها الصادر في 14 نوفمبر عام 1941 “تتدلى وكأنها شبكة من نسيج العنكبوت في مهب الريح، تضم خيوطا يقود كل منها إلى جانب من جوانب شخصية كين“.

النتيجة هي قصة جيدة يكتنفها قليل من الغموض، وتحليلات متناقضة لشخصية البطل.

يقول المخرج الشهير مارتين سكورسيزي في تعليقه على الفيلم، الذي يعتبره من أفلامه الخمسة المفضلة، إن “لغز شخصية كاين المحير يجعلك لا تعرفه جيدا، لا تستطيع، كما أنه خائف من معرفة نفسه، فهو يخشى من أن يقول شيئا يظهر حقيقة مشاعره…لقد بنى حائطا بينه وبين العالم الخارجي، ورغم العدد الكبير من المرات التي شاهدت فيها الفيلم، لا أستطيع التعاطف مع كين. لكنني أتعاطف مع أورسون ولز وتجسيده للدور. فقد أعجبني هو شخصيا“.

يتجلى الأثر الكبير للمواطن كين على صناعة السينما من خلال ما يصفه المتخصصون بعبقرية أورسون ويلز في الجمع بين عديد الوسائل المتاحة له كمخرج، والتي تحدثت عنها أجيال من صناع السينما والنقاد ونوقشت في أوراق بحثية ورسائل أكاديمية.

استخدم ولز الضوء في الفيلم بشكل معبر لإثارة مشاعر بعينها في المشاهد. قبل ذلك، كانت الرسائل التي ترغب السينما في توصيلها تتم من خلال المحتوى وليس الطريقة التي يتم بها تصوير المشاهد، ولكن المواطن كاين يعتبر بحسب الكثير من المختصين الفيلم الأول الذي استخدم الجوانب الفنية إلى جانب المحتوى في توصيل ما يرغب من رسائل.

على سبيل المثال، عندما ينتهي شريط الأخبار الذي يتناول وفاة تشارلز فوستر كين، تنتقل الكاميرا فجأة إلى الصحفيين الذين يقفون وراء شاشة العرض. يستخدم ولز إضاءة خلفية قوية تضع هؤلاء الأشخاص في الظل ويبقى التركيز على كين – وكأن ويلز يقول للمشاهد إن تلك الشخصيات ليست مهمة، وإنما ما تسعى إلى اكتشافه هو المهم.

يستخدم المصور السينمائي الشهير غريغ تولاند – الذي يُنظر إليه بشكل كبير على أنه من أسباب النجاح الكبير للفيلم – اللقطات الطويلة في عدة أماكن بالفيلم لتعزيز القصة. على سبيل المثال، في المشهد الذي يقوم به والدا تشارلي كين بالتخلي عن وصاية ابنهما لصالح المسؤول البنكي والتر ثاتشر، يظهر تشارلي وهو يلعب وسط الثلوج المتساقطة في الحديقة، غير مدرك لما ينتظره من مستقبل، ثم تنتقل الكاميرا للتركيز على ما يدور بين والديه وثاتشر، ولكن المشاهد يستطيع أن يرى الطفل تشارلز في نفس الوقت من خلال النافذة و”كأنه محاصر”، على حد تعبير مقال كتبه لي سينغر على موقعه معهد الفيلم البريطاني (BFI)، بل حبيس ..بين أبوين متناحرين، وقد جلس ثاتشر إلى جانب الأم المهيمنة التي لا تعبأ بكلام الأب الضعيف. إنها طريقة بارعة في سرد القصة“.

من ابتكارات ولز الأخرى التي سبق فيها فيلم “Zelig” الذي أخرجه وودي آلان عام 1983 وضع نفسه إلى شخصيات تاريخية شهيرة مثل أدولف هيتلر والرئيس الأمريكي تيدي روزفيلت، في لقطات أرشيفية صنعت لتبدو قديمة وبالية.

استخدم أورسون ولز وسائل مبتكرة في تقطيع المشاهد وتركيبها وتجميع اللقطات أو “المونتاج” للتعبير عن مرور الوقت وتغير الأوضع.

يتجلى ذلك في أوضح صوره في مشاهد الإفطار بين كين وزوجته الأولى إميلي. في بداية المونتاج، تقترب الكاميرا من الزوجين اللذين يجلسان بالقرب من بعضهما بعضا، ويستخدم ولز وموسيقى رومانسية لإظهار مشاعر الحب بينهما خلال السنوات الأولى من الزواج.

بالتدريج، تزداد المسافة المكانية بينهما وتتغير الموسيقى وتتغير ملابسهما وهيئتهما وتتسارع وتيرة المَشاهد، ما يعكس تدهور العلاقة بينهما مع مرور الوقت.

يذخر الفيلم بالصور والرموز، ولكن ربما كان أقواها هو كلمة “Rosebud” التي يتمحور الفيلم حولها.

بعد فشل المراسل الصحفي في التوصل إلى معنى الكلمة، نكتشف في المشهد الختامي أنها تشير إلى المزلجة التي كان يتزلج عليها الطفل تشارلي فوق الثلج وكان شغوفا بها.

يتم إلقاء المزلجة في محرقة مع باقي الأشياء عديمة القيمة الموجودة في قلعة كين في المشهد الأخير، لتحترق وتتلاشى، وتتلاشى معها أي فرصة لاكتشاف اللغز، وكأنها رمز للبراءة يذّكر المُشاهد بالفترة الوحيدة التي كان فيها تشارلز فوستر كاين سعيدا بحق.

ربما كان ذلك أكثر مشهد في الفيلم يثير التعاطف مع كين الذي تربى بعيدا عن دفء الأسرة وعاش حياة تعيسة وحيدة رغم الشهرة والمال.

قد لا يتفق الجميع على أن “المواطن كين” هو الأعظم في تاريخ هوليوود، ولكن الشيء الذي لا يختلف عليه كثيرون هو أهميته وأثره البارز في السينما واحتفاظه برونقه رغم مرور أكثر من 80 عاماً على عرضه الأول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى