بلاتوهات

في ذكرى مرور 53 عاماً على رحيله : رائحة «الزعيم» على الشاشة.. «صوت وصورة وأغنية وجنازة»

ـ يوسف شاهين رثاه في «عودة الابن الضال»، ورضوان الكاشف لجأ إلى صورته في «ليه يا بنفسج»، ومدحت السباعي جعل من جنازته نقطة فاصلة بين زمنين.

 ـ مجدي الطيب

لا أظن أن ثمة سينما في العالم تناولت شخصية سياسية تاريخية أو مُعاصرة بالشكل الذي تعاملت به السينما المصرية مع جمال عبد الناصر (15 يناير 1918ـ 28 سبتمبر 1970)، ففى واحدة من المرات القليلة، بل النادرة للغاية، لم تكتف السينما المصرية برصد السيرة الذاتية لجمال عبد الناصر أو إلقاء الضوء على جانب من حياته، بل أصبح يكفي بالنسبة لها أن تضع صورته على جدار غرفة تسكنها عائلة فقيرة أو تستعيد صوته في واحدة من خطبه التاريخية أو المشهد المهيب لتشييع جثمانه، لتترك انطباعاً قوياً لدى الجمهور بحجم الخسارة الفادحة التي نجمت عن رحيله، وإحساسا طاغياً بأن “الغلابة” في حاجة إلى “زعيم”.

لا أعني بمقدمتي هذه فيلم “ناصر 56” (1995) للكاتب محفوظ عبد الرحمن والمخرج محمد فاضل، الذي رصد الأيام القليلة التي سبقت اتخاذ قرار تأميم قناة السويس، أو فيلم “جمال عبد الناصر”(1999) للكاتب إيهاب إمام والمخرج أنور قوادري، الذي لم يفوت شاردة ولا واردة في حياة “عبد الناصر” من دون أن يوثقها فأثقل كاهل الفيلم، وأرهق من شاهده، لكنني أتوقف عند الأفلام التي وظفت صوته وصورته وجنازته وأغنية “الوداع يا جمال يا حبيب الملايين”، التي رددها الجميع، وأبكت الملايين، يوم رحيله، توظيفاً درامياً، وجعلت منها عنصراً تنويرياً، ومن ثم لعبت دوراً تحريضياً وثورياً بمعنى الكلمة، مثلما أشير إلى الأفلام التي افتقر أصحابها إلى الحد الأدنى من الشجاعة، واكتفوا بالتلميح دون التصريح إلى “الطاغية” الذي جرعنا مرارة الهزيمة، وحرمنا مذاق الحرية.

أغنية واحدة تكفي

الشائع أن المخرج الكبير يوسف شاهين لم يصنع فيلماً عن “عبد الناصر”، بالرغم من تلميح البعض إلى أنه كان يعنيه عندما اختار لفيلمه الشهير اسم “الناصر صلاح الدين”، لكن الحقيقة التي فاتت على هؤلاء وأولئك أن “الأستاذ” نجح، من دون ثرثرة أو خطابة، في تخليد “الزعيم”، عندما قدم مشاهد قليلة للغاية، في فيلم “عودة الابن الضال” (1976) لكنها كثفت المعنى الذي أراده، ومعه صلاح جاهين كاتب القصة، عندما رصد لحظة الإفراج عن “علي” ـ أحمد محرز ـ من المعتقل، وبينما هو يسير بجوار أسوار السجن، تتردد على مسامعنا فحوى الرسالة التي كان قد بعث بها إلى عبد الناصر قبل الإفراج عنه، وتكاد تُذكرنا بالرسالة التي بعث بها الشاعر الكبير نزار قباني من بيروت في 30 أكتوبر 1967، ورثى فيها حال “شاعر عربي يتعرض من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم”، حسبما جاء في الرسالة، التي جاءت في أعقاب منع قصيدته “هوامش على دفتر النكسة” من دخول مصر، وفرض حصار رسمي على اسمه وشعره في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها؛ فعلى النسق نفسه تقريباً، يقول بطل “الابن الضال”(أحمد محرز) مُخاطباً “عبد الناصر”، وكله أسى: “إذا تفضلت وأمرت بفتح قضيتي يا سيدي وإعادة التحقيق فيها ووضعت يدك على المجرم الحقيقي الذي ألصق التهمة بي لتأكدت من براءتي وأطلقت سراحي”، لكنه لا يهنأ بالإفراج عنه في حياة “عبد الناصر”، ففي اللقطة التالية نراه، وهو يعدو بأقصى قوة، وفي الخلفية قرص الشمس الشاحب لحظة الغروب، بينما تتردد في الأصداء، بتوزيع موسيقي جنائزي، أغنية “الوداع يا جمال”، ثم نرى الفتى على مقربة من “بلوك” محطة قطار مهجورة، وهو يسير على قضبان سكك حديدية، وكأنه في مفترق طرق تقود إلى مصير مجهول.

صورة على الجدار

هكذا فعل يوسف شاهين، وهو يدين “الزعيم”، الذي لم يفطن لخطورة من حوله، ممن استغلوه، ودمروا حلمه، وقادوه إلى هزيمة 1967، لكن المخرج رضوان الكاشف، الذي أهدى فيلمه “ليه يا بنفسج” (1993)، الذي شارك في كتابته رفيق عمره سامي السيوي، “إلى كتاب الستينيات والفرح بالكتابة”، استبدل الأغنية المليئة بالشجن بصورة لجمال عبد الناصر احتلت جدار الغرفة المتواضعة التي يعيش فيها الأصدقاء الثلاثة “احمد” ـ فاروق الفيشاوي، “سيد” ـ أشرف عبد الباقي و”عباس” ـ نجاح الموجي ـ وكأنه “الأب” الذي عوضهم “اليتم”، والملاذ الأخير لهم في دنياهم المحبطة، و”بصيص الأمل” في حياة جديدة تُخلصهم من الفقر والبطالة والتهميش. ولم ينس “الكاشف”، في الفيلم نفسه، أن يضع على مقربة من صورة “حبيب الملايين” صورة أخرى لعبد الحليم حافظ “صوت الثورة” وابنها، وكأن “الكاشف” يؤكد عمق الصلة، وقوة العلاقة، بين الصورتين والشخصين، فضلاً عن وحدة الهدف والتوجه. وطوال أحداث الفيلم العذب ظلت الصورتان بمثابة “شاهد عيان” على الأحوال التي تدهورت في مصر، والتحول الجذري الذي أصاب بنيتها، والمعاناة الرهيبة التي يعيشها أهلها.

جنازة فاصلة

من ناحيته وظف المخرج مدحت السباعي في فيلمه “فرسان آخر زمن” (1993) الموكب المهيب الذي خرج فيه الشعب المصري عن بكرة أبيه، في مشهد لم يعرف التاريخ مثله، كإشارة ذات مغزى لبداية مرحلة جديدة في تاريخ مصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ إذ استغرق مشهد الجنازة، الذي استعاره “السباعي” من “الأرشيف الوثائقي”، زمناً طويلاً على الشاشة، وربما كان الأطول الذي يقدمه مخرج في فيلم روائي، ليرصد نقطة التحول في حياة ومسيرة الأصدقاء “طارق منصور” ـ فاروق الفيشاوي، “وجدى حسنين” ـ محمود حميدة ـ و”عادل فهمي” ـ مصطفى فهمي ـ الذين تخرجوا في جامعة الإسكندرية في عام النكسة، وليلة الاحتفال بتخرجهم اغتصب “وجدي”، وهو مخمور، فتاة لكنها تموت متأثرة بالصدمة، ويتخلص الثلاثة من جثتها، لكن الجريمة تطاردهم، حتى بعد أن أصبحوا نجوم مجتمع؛ فالأول ـ “طارق” ـ أصبح معيداً بالجامعة ثم رئيس تحرير جريدة مسائية، والثاني ـ “وجدى” صار رجل أعمال،ب ينما صار الثالث ـ”عادل”ـ لاعب كرة ثم مدربا بالنادي الأهلي فممثلا، ويدب الخلاف بينهم، وتنهار علاقة الصداقة القديمة؛ فالجنازة وإن بدت لمن يشاهد الفيلم خارجة عن السياق الدرامي لأحداث فيلم “فرسان آخر زمن”، إلا أنها كانت بمثابة النقطة الفاصلة بين “زمن المد الثوري”، و”زمن انفتاح السداح مداح”، الذي اختلطت فيه القيم، وسادت فيه الانتهازية والوصولية، وتحول فيه “المغتصبون” و”المجرمون” إلى علية المجتمع ونجومه.

ترميم الشرخ العربي

أعوام طويلة مضت على السينما المصرية لم تتذكر خلالها جمال عبد الناصر، إلا لماماً، إلى أن عاد المخرج خالد يوسف وتذكره من جديد في فيلم “دكان شحاتة” (2009)؛ فعلى الرغم من أن أحداث الفيلم الذي كتبه ناصر عبد الرحمن تبدأ لحظة اغتيال “السادات” في حادث المنصة، وبداية حكم “مبارك”، إلا أن خالد يوسف يقدم مشهداً يطالب فيه الأب “حجاج” ـ محمود حميدة ـ ابنه “شحاتة” ـ عمرو سعد ـ بأن يمد يده، ويحرك صورة “الريس” ـ هكذا وصف عبد الناصر في زمن مبارك ـ إلى الشمال قليلاً ليغطي بها الشرخ الذي أصاب حائط الحجرة المتواضعة التي يعيش فيها مع أولاده، لكن الابن يعلق: “الشرخ كبير والصورة ما تغطيهوش كله”، ويرد الأب : “تغطي اللي تقدر عليه”، وبعدها يعود إلى الاستماع إلى السيرة الهلالية، لكن دلالة المشهد لا تخفى على المشاهد الفطن؛ خصوصاً أن المخرج أتبعه بلقطة أخرى للأب مع ابنه، وهو يطلب من صاحب عربة يد تبيع “السمين”، وفي خلفية المشهد لافتة من القماش يهنيء صاحبها حسني مبارك “لاكتساحه الانتخابات الرئاسية”، وكأنه يحمله مسئولية اتساع الشرخ، وهو المعنى الذي يتأكد في مشهد لاحق نرى فيه “محمود” ـ أسامة عبد الله ـ نجل الدكتور “مؤنس” ـ عبد العزيز مخيون ـ وهو يبيع فيلا والده اليساري للسفارة الإسرائيلية لتجعل منها مقراً لها؛ فالمخرج أراد القول إن الشرخ الذي أصاب الوطن، والأمة،في أعقاب رحيل “عبد الناصر” كبر واتسع، في عهدي “السادات”، الذي وقّع معاهدة السلام مع إسرائيل في 26 مارس 1979، فأصاب العلاقات المصرية العربية بانهيار خطير، و”مبارك”، الذي واصل نهج سلفه، وكانت النتيجة فرقة عربية، وأزمات داخلية بلغت ذروتها بالتطرف الديني، وربما تنتهي، كما تنبأ الفيلم، بثورة جياع، و”وطن بيسلم حروف اسمه”، و”يغير العنوان”، في حال إذا لم نستدع زعيماً مثل جمال عبد الناصر.

الثورة المضادة

في المقابل، أنتجت السينما المصرية أفلاماً من قبيل تصفية الحسابات مع “عبد الناصر”،وعصره، وبعد سنوات لم تدم طويلاً اتضح للعيان أن أصحابها تم استخدامهم من جانب قوى وأطراف أخرى للتشهير بـ”الزعيم”، والنيل من منجزه، ومحو صورته النقية في أذهان المصريين؛ وهو ما حدث تحت ظل نظام “السادات”، الذي شجع إنتاج أفلام على شاكلة :”الكرنك” (1975)، “أسياد وعبيد” (1978)، “وراء الشمس” ( 1978)، “احنا بتوع الأتوبيس” (1979) و”قانون إيكا” (1991) لم تر في عهد عبد الناصر سوى أنه “عهد المعتقلات”، بينما اتهمته أفلام أخرى مثل :”طائر الليل الحزين” (1977)، “امرأة من زجاج” (1977)، “العرّافة” (1981) بأنه زمن “مراكز القوى” بينما وصفه “آه يا ليل يا زمن” (1977) بأنه “زمن فرض الحراسة”، وبالغ فيلم “ملف سامية شعراوي” (1988) أكثر وحمله مسئولية هزيمة 1967، و”نحر” عبد الحكيم عامر، وجاء فيلم “إعدام قاضى” (1990) ليلحق بفيلم “امرأة من زجاج” (1977) ويصمه بأنه “عهد التعذيب”، الذي لم يكتف بقهر المواطن، وإنما شهد تجاوزات جسيمة في حق رجال القانون، وارتكبت فيه مذبحة القضاة؛ حيث تبدأ الأحداث بإلقاء قاض ـ عادل هاشم ـ من شرفة شقته، لأنه رفض الإذعان لنصائح مسئول أمن الدولة ـ عزت العلايلي ـ وبعدها تنشر الصحف بأن “السادات” أمر بإقالة “شعراوي جمعة” ـ ذراع عبد الناصر ـ من منصبه كوزير للداخلية، وتعيين ممدوح سالم بدلاً منه، بعدما استنكر ـ أي “السادات” ـ ما صدر من الداخلية في حق القضاة والمواطنين على حد سواء !

الدكتاتور يرحب بانتقاده

يخطئ من يظن أننا ننظر إلى “عبد الناصر” بوصفه ظل الإله على الأرض أو الإنسان المُنزه عن الخطأ، لكننا نرصد مفارقة مثيرة عندما ننوه إلى أن الرجل الذي طاردته تهمة “الديكتاتورية” لم يتردد، مطلقاً، في الموافقة على عرض عدد من الأفلام التي انتقدت الثورة، كما حدث في فيلم “المتمردون”(1968)، “القضية 68″(1968) و”ميرامار”(1969)، ووصفته بأنه “طاغية” و”رئيس عصابة” حكم مصر غصباً، كما حدث في فيلم “شيء من الخوف”(1969)، وهو الذي رد على من سعى للتحريض ضد الفيلم بقوله :”لو إحنا عصابة زي عتريس ورجالته نبقى نستحق الحرق !”، ولم يعط الإشارة، كغيره، للتشهير بخصومه، أو إهالة التراب على معارضيه، ولهذا السبب ظل في الضمير الجمعي رمز الكرامة نظيف اليد، والذمة، وتعلق به الشعب المصري في حياته، وبعد رحيله، ومن ثم كان طبيعياً أن يرفع الملايين صوره إبان ثورة 25 يناير ثم تكرر الأمر في ثورة 30 يونيو، وأن تثير “صورته” على الشاشة، و”جنازته”، وأغنية وداعه، الكثير من الشجن والحنين إلى زمن العزة والنخوة العربية والرومانسية الثورية، وكأن الشعب يتنسم من خلالها ـ الصورة والأغنية الجنازة ـ عبق الوطنية، ويزداد يقيناً العام بعد الآخر أن عباءة الزعامة صارت فضفاضة، ولا تناسب كثيرين ممن أضاعوا على مصر هيبتها ومكانتها، بعد أن كانت “قلب العروبة النابض” .. رحم الله جمال عبد الناصر وطيب الله ثراه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى