شخصيات سينمائية

في ذكرى 15 عاماً على رحيله.. يوسف شاهين تاريخ حافل بالحب والمشاكسة والفن والغضب

بقلم ـ عماد النويري

رحل يوسف شاهين، وقبلها رحلت ذاكرته، وغاب عن الوعي في مشهد سينمائي مؤثر لا يختلف كثيراً عن المشاهد التي حفلت بها أفلامه. بقي شاهين لمدة شهر غائباً عن الوعي وكأن وعيه يرفض أن يغيب. انتهى صراعه مع نفسه بعد صراع طويل مع الأحباب والأصحاب والأصدقاء والأعداء والبسطاء والحكام.

وفى يوم 27 يوليو 2008 غاب أخيراً عن الوعي بشكل رسمي أعلنته الحكومة وأعلنته السماء. غاب واحد من أهم المخرجين العرب الذين أقاموا الدنيا وشغلوا الناس. وسواء شئنا أم أبينا.. وافقنا أو ترددنا، فإن يوسف شاهين –  نعيد ونؤكد كما يعيد ويؤكد كل من أحب سينماه –  هو الأب الروحي للسينما العربية الحديثة، والمؤسس لهذه السينما على مستوى المضمون والشكل.

هو المتمرد ضد جميع أشكال القهر، والمؤسس لسينما الأنا التي تطرح مشاكلها الذاتية الفردية وتحاول أن تتواصل مع الأخر من خلال صدق المكاشفة، وتعانق حين تنطلق متحررة من أسرها الوجود كله. السينما التي قدمها لنا شاهين عبر أفلامه عالجت كافة الأنواع وتمثل لنا عالماً يلتهم كافة مظاهر الحياة.

بابا أمين

قدم لنا الكوميديا في (بابا أمين)، والدراما الاجتماعية في (ابن النيل)، والميلودراما في (نداء العشاق)، والكوميديا الموسيقية في (بياع الخواتم)، والدراما الملحمية في (صلاح الدين)، (المهاجر) و(وداعا بونابرت)، والسينما الحديثة في (الاختيار) والفيلم الوطني في (جميلة بوحيرد)، كما قدم لنا فانتازيا السيرة الذاتية في (حدوته مصرية)، (إسكندرية ليه؟)، (إسكندرية كمان وكمان) و(الآخر)، وفى كل أفلامه كان الموضوع الرئيسي هو الهوية.

إن أية مراجعة بسيطة لأفلام يوسف شاهين ولسينما يوسف شاهين إنما هي مراجعة عكسية في واقع الأمر للتاريخ العربي المعاصر منذ الخمسينات ولغاية يومنا هذا، منذ (بابا أمين) وحتى (هي فوضى).

ويمكن إرجاء التناقض الملحوظ في سيرته السينمائية طيلة السنوات الأخيرة إلى السير المتعرج للعمل السياسي في الوطن العربي الذي خرج إلى العالم بمبدأ تطبيق الوحدة بمثل الطريقة التي أدت إلى نشوء عصر الانفصال، وأخيراً التفتت الموجود في الوطن العربي الذي يعيش أزهى فترات انحطاطه.

أفلام شاهين تحتاج إلى أكثر من مشاهدة لأنها أفلام تحرض – بعد استمتاعنا بقيمتها الفنية العالية وجماليتها الحديثة –على التفكير، وتحثنا على التغيير بجرأة مذهلة، وتعلمنا منظومة من القيم، لعل أهمها قيمتي التأمل والتسامح إذا كان هناك ما يدعو للتسامح.

منذ البداية أدرك يوسف شاهين، المولود عام 1926، إن صنع الأفلام يتطلب جهدا شاقا ووقتا طويلا. ومن خلال رغبته في الخروج من دوائرها التقليدية تمكن من تجاوزها إلى حد كبير.

صراع في الوادي

ويمكن أن نحدد عام 1954 كبداية أول مرحلة جدية خاضها شاهين حين حقق (صراع في الوادي)، بعد أن حقق أفلاماً قد تكون جيدة بالنسبة للسينما المصرية السائدة آنذاك إلا أنها لم تكن هي المرجوة منه، هذه الأفلام كانت (بابا أمين) أول أفلامه عام 1950 و(ابن النيل) 1951 و(المهرج الكبير) 1952 و(سيدة القطار) 1953 و(نساء بلا رجال )1953، و(شياطين في الصحراء) 1954 و(صراع في الميناء) 1956 و(ودعت حبك) 1957 و(أنت حبيبي) عام 1957 ثم (باب الحديد) 1958.

نجاح وشاعرية

سينمائياً كان (باب الحديد) أول نجاح عالمي لشاهين، وإذ ارتبط نضوج شاهين بالمرحلة التي تلت ثورة يوليو بسنوات، فإن هذا النضوج لم يكتمل إلا بعد فترة طويلة خضعت فيها تجربته لظروف التطور الاقتصادي والسياسي مما دفع بأفلامه إلى أن تكون تعبيراً عن واقع الحال. وبعد أربعة أفلام هي (حب العباد) 1959 و(بين ايديك) 1960 و(رجل في حياتي) 1961 و(نداء العشاق) 1961 وبعد خمسة أعوام من (باب الحديد) قدم شاهين عام 1963 (صلاح الدين الأيوبي) أول أفلامه الملونة وأفضل الأفلام التاريخية المصرية، وكانت مصر آنذاك في وحدة مع سوريا وصلاح الدين الأيوبي من أكبر رموز الوحدة العربية.

باب الحديد

وفي (فجر يوم جديد) حاول شاهين تقديم الجانب المشرق من الحياة المصرية ثم يرحل إلى لبنان قبل هزيمة 67 بعامين ليقدم أول أفلام المطربة فيروز (بياع الخواتم) عن مسرحية للأخوين رحباني، ومن بطولة وغناء فيروز، وتكمن أهميته في كونه استفاد إلى حد كبير من أجواء الرحابنة الساحرة وأسس هذا الفيلم لتعامل شاهيني مع الأغنية والموسيقى سوف ينمو لاحقاً في بعض مشاهد (عودة الابن الضال) ثم (رمال من ذهب) عام 1966 الذي صور في لبنان والمغرب واسبانيا، ثم بعد ذلك في (اليوم السادس) و(الآخر) و(المصير)، وفى عام 1970 قدم شاهين فيلم (الأرض) حيث عاد إلى أجواء (صراع في الوادي) واقتبس رواية لعبد الرحمن الشرقاوي أضفى عليها رؤيته السينمائية التي كانت قد ازدادت مع الأيام تميزاً، ليجعل من هذا الفيلم واحدا من أفضل ما انتجته السينما العربية ليس في نظر النقاد  بل في نظر الجمهور أيضاً. وفى العام 1972 ظهر فيلم (العصفور) ليخبرنا أن شاهين يعيش قدراً كبيراً من التشويش، ويملك أسئلة أكثر من الأجوبة، ولأن شاهين أراد أن يقول فيه أشياء كثيرة وعديدة، ظل غامضاً على الفهم لكن كان (العصفور) يمثل حديثاً مهماً عن هزيمة 67، واستقبل حيثما عرض بترحاب شديد. ومن الناحية السينمائية شهد هذا الفيلم تطويرا جديا في استخدام شاهين للغته السينمائية.

عودة الابن الضال

لقد كانت أخر عشرين دقيقة من الفيلم من أجمل وأقوي وأصدق المشاهد السينمائية العربية على الإطلاق، وفيها يصور شاهين كيفية وقوع الهزيمة على إفراد الشعب العربي، واكتشافهم حقيقة وقوعهم ضحية لوسائل الإعلام الكاذبة. أن الصدق الذي يختم به شاهين فيلمه في أجواء ملحمية وشاعرية مفعمة بالحماس جاء دليلاً على وعى الفنان لشعبة وقضايا أمته.

وفي العام 1973 قدم شاهين (الناس والنيل)، وكان فيلم الاختيار (1971) بداية مرحلة، ونهاية مرحلة أخرى.. ومنذ فيلم (الاختيار) وشاهين يعلن المرة تلو الأخرى أنه ومنذ كارثة 67: (لم يعد يستطع أن يحكى حدوته، فليس ثمة قصة يمكنها أن تعكس أفكاره ومشاعره على نحو متكامل، وهو يريد أن يعبر بأسلوب خاص ومتحرر من وسائل السرد التقليدية عن رؤيته وإحساسه بالتلاحق السريع للأحداث والتغيرات التي تلحق بالوطن.

في (الاختيار) من الممكن أن تلمس واحدة من أفكار شاهين: فالمظهر النظيف المستقر غالباً ما يخفي مضموناً سيئاً ومتهالكاً، فوراء نجاحات سيد مثقف السلطة الانتهازي سلسلة من الجرائم والخيانات. إن خصوصية هذا الفيلم تكمن – حسب رأينا – في أن شاهين اخرج شريطاً مصمماً تصميماً سردياً على المثال الأوروبي، ينحو فيه منحى طلائعياً، وتتعرج فيه العقدة على النحو الذي تأخذه في الرواية أو في الفيلم البوليسي. وهو لذلك يعتبر فيلماً لا يساير توجهات سوق السينما العربية، الطاغية أنذاك، وبالتالي لا يلبى مطالب الجمهور.

العصفور

وفي (العصفور) (1972) نجد أن وراء الملصقات والإعلانات الثورية التي ملأت الشوارع والجدران قبل حرب 67 بأيام قليلة، والتي تتحدث عن تماسك الجميع وعن القوة القاهرة التي لن يصمد العدو أمامها نجد إن وراء هذا المظهر جريمة مروعة. كان يوسف شاهين بحسه الفني وبصدقة المفرط في تعامله مع الواقع أكثر الناس تشاؤماً، وكان واقع السبعينيات المضطرب سريع التغير المليء بالصراعات يفرض نفسه بقوة على أفلامه.

منطق كوني

فيلم (إسكندرية ليه؟) (1978) في خط من خطوطه كان امتداداً أصيلاً لأفلام يوسف شاهين رغم ما قيل أيامها أنه مجرد حدوته ذاتية تدور داخل طبقة محدودة وأقلية معينة باعتبار أنه.. (لا يمكن لأحد أن ينكر دور الأقليات التي عاشت في مصر. لقد لعبت هذه الأقليات دوراً مؤثراً في الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية للمجتمع المصري وتصويري لهذا المناخ المنفتح يرد على ادعاءات الصهيونية الخاصة بأن العالم الإسلامي عالم متعصب).

إسكندرية لية

فيلم (إسكندرية ليه؟) والذي قدمه شاهين عام 1978 قابل لأكثر من قراءة وظهر خط جديد في رؤية يوسف شاهين: خط باتجاه التسامح ولا نقول المسالمة قال أيامها (من حقي مناقشة بعض الشعارات والأسئلة التي اطرحها من منطلق كوني شامل)، إن ثمة تحولاً جذرياً تاماً قد مس أسلوب شاهين السينمائي في (إسكندرية ليه؟). فالقلق الدائم الذي نلاحظه يعتري مسيرة تطوره السينمائي ذلك الذي يدفعه دائماً من فيلم إلى فيلم، إلى الإضافة والى توسيع الرؤية، قد أوصل أسلوبه في هذا الفيلم إلى مرحلة كاملة من الممكن أن نسميها بالمرحلة التركيبية وكان لهذه المرحلة أن تلقى بظلالها على أغلب أفلامه اللاحقة.

محاكمة وحسابات

وفي (حدوتة مصرية) (1982) قدم شاهين محاكمة لنفسه وفى (إسكندرية كمان وكمان) 1990 أكد فيه شاهين على المنحى الذاتي والنفسي الذي يتميز بين المراوحة والتداخل بين هموم الوطن ورغبات الفرد الفنان.

حدوتة مصرية

وتؤكد الثلاثية على أن شاهين قد تعلم عن طريق ملاحظاته المباشرة التي ميزت أنماط الأفلام التي تتقبلها المهرجانات السينمائية الغربية بعد تجاربه في مهرجان كان مع فيلم (ابن النيل) ومهرجان برلين مع فيلم (باب الحديد) ومع مهرجان موسكو مع فيلم (جميلة).

تحوير وحذف

وفي (وداعا بونابرت) رفض شاهين منطق بكر القائم على الانغلاق والتعصب). وفى فيلم (اليوم السادس) عام 1986 نجد الحضور الطاغي لولع شاهين بالسينما.. وإذا كان شاهين في أغلب أفلامه يهتم بتناول الجنس وتصويره بشتى أبعاده ومستوياته: الواقعية والرمزية، الاجتماعية والسيكولوجية، السوية والشذوذيه، المتحررة والمكبوتة، فإنه في (اليوم السادس) يظهره كعنصر أو محرك أساسي يحكم العلاقات ويحدد توجهات الأفراد. ومن ثم فإن شاهين هو الأكثر جرأة من بين المخرجين المصريين في معالجة موضوع الجنس والأكثر حساسية تجاه هذا العنصر الجوهري منذ (باب الحديد) وحتى أخر أعماله.

المهاجر

ويتناول فيلم (المهاجر) 1994 قصة سيدنا يوسف مع بعض التحوير والحذف والإضافة وهو يذكرنا بملحمته هذه بروائع الأفلام التاريخية الهوليوديه مثل (الوصايا العشر) و(شمشون ودليلة) و(بن هور) وكان من الواضح إن الفيلم يحتشد بأفكار شاهينية خاصة عن التعصب والتسامح والسلطة الدينية والعسكرية لكن كما يبدو فإن تناول شاهين للمجتمع المصري القديم جاء بصورة مسطحة وتبسيطية للغاية وكاريكاتورية في أغلب الأحيان وبما يتناقض مع الأفكار الكبيرة والقيم النبيلة التي مثلها بطل الفيلم.

متناقضات وتكريم

وفي العام 1997 وفى الدورة الاحتفالية لمناسبة مرور نصف قرن على مهرجان كان عرض فيلم (المصير)، وكان الفيلم العربي الوحيد في المسابقة الرسمية للمهرجان، وعبر الفيلم وكعادته دائماً طرح شاهين مجموعة من الإشكاليات والتساؤلات. فإذا كانت الأديان في الأساس جاءت وأحدثت طفرة وقفزات في تاريخ البشرية، فما الذي حدث حتى تستخدم الأديان لإرجاع حركة التاريخ إلى الخلف؟!، وهل هو حتمي أن تصطدم سلطة الفكر في أغلب الأحيان بفكر السلطة؟، ومزج الفيلم في أسلوبه بين عدة متناقضات وأنواع سينمائية في وقت واحد.

المصير

وفى هذه الدورة حصد شاهين على أهم جائزة سينمائية في حياته وهي تكريمه وتقدير عن مجمل أعماله السينمائية، ولم يتوقف شاهين بعد أن نال تقدير العالم في مهرجان كان وإنما كان ذلك دافعاً له لتقديم المزيد من النتاجات السينمائية فقدم فيلم (الآخر) عام 1999 وبعدها بعامين قدم (سكوت حنصور) ثم (إسكندرية نيويورك) 2004. و(هي فوضى) عام 2007 مع المخرج خالد يوسف. وغير أفلامه الروائية الطويلة قدم شاهين مجموعة من الأفلام القصيرة وهي (عيد النيترون) 1968، و(سلوى) 1972 و(الانطلاق) 1973 و(القاهرة منورة بأهلها) 1993.

هي فوضى

إن الصورة التي قد تحمل، بلا حرج، شيئاً من الادعاء بالنسبة لطبيعة التزامات شاهين السياسية، لا تمنع من القول أن هذا السينمائي ترك في الأذهان انطباع تمتعه بنظرة تقدمية ظلت على يسار المنهج السياسي الدائر ويمكن إرجاء التناقض الملحوظ في سيرته السينمائية طيلة السنوات الأخيرة إلى السير المتعرج للعمل السياسي في الوطن العربي الذي خرج إلى العالم بمبدأ تطبيق الوحدة بمثل الطريقة التي أدت إلى نشوء عصر الانفصال وأخيرا التفتت الموجود في الوطن العربي.

لذا فإن أية مراجعة بسيطة لأفلام يوسف شاهين ولسينما يوسف شاهين إنما هي مراجعة عكسية في واقع الأمر للتاريخ العربي المعاصر منذ الخمسينات وحتى رحيله.

برحيله رحل الابن الضال ليستريح …

وبرحيله رحل فنان جرىْ وشجاع.

وفقدت الثقافة العربية الحديثة واحدا من أهم أعمدتها.

وتبقى الذكرى والافكار والصور.

الأرض

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى