قراءة في أفلام مسابقة «بروكسيما» بالدورة الـ 56 لـ «كارلوفي فاري السينمائي»
كارلوفي فاري ـ خاص «سينماتوغراف»
القسم الجديد، المُبتَكر في الدورة الـ56 (1 ـ 9 سبتمبر 2022) لـ”مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي” بعنوان “بروكسيما”، شابَه غموضٌ كثيرٌ قبل بدء أيامها. لم يكن واضحاً تماماً الغرض منه، أو سبب جعله “مسابقة رسمية”. لكنْ، مع انتصاف عروضه، اتّضحت الصورة إلى حدّ بعيدٍ، وتجلّت الفكرة القائمة وراء بلورته، رغم أنّ اسمه، “بروكسيما”، ظلّ غامضاً. الاسم، وفقاً للقائمين على البرمجة، أُخِذَ عن اللاتينية، ويعني “القريب” أو “التالي”؛ أي أنّه “القريب” أو “التالي” في الأهمية، بعد “مسابقة الكرة البلورية”، والمكمّلة لها.
يتبنّى “بروكسيما” أفلاماً منفتحة برحابة على كلّ تجريب وتجديد وتطوير، شكلاً ومضموناً ومعالجة، وهذا واضح بجلاء بعد عرض نصف أفلامه، وهذه بعضها:
يُقدّم التشيكي سيمون هولي (1994)، في “وبعد ذلك كان هناك حبٌّ”، دراما نفسية خيالية، عن فقدان الحبّ والأمل، وشريك الحياة. أمرٌ يدفع كريستينا وابنتها سارة إلى القيام برحلة إلى إحدى الغابات، للقاء عرّافة محترفة في قراءة أوراق التاروت، فتُخبرهما بما كان في حياتهما، وما سيكون عليه شكل مستقبلهما. لكنّها تقوم، أيضاً، بدراسة نفسية عميقة لهما، تُفجّر في داخلهما المكبوحَ والمكبوت، وتدفعهما إلى تعاطٍ مُغايرٍ مع الحياة حولهما.
“حمقى”، للبولندي توماش فاسيليفسكي (1970)، صاحب “الولايات المتحدة للحبّ”، الفائز بـ”الدبّ الفضّي ـ أفضل سيناريو”، في الدورة الـ66 (11 ـ 21 فبراير 2016) لـ”مهرجان برلين السينمائي الدولي (برليناله)”. فيه، يعود توماش إلى موضوعاته الأثيرة: غرائب النفس البشرية وتعقيداتها، تصرّفات البشر وسلوكياتهم غير المفهومة، من دون الإشارة، هذه المرة، إلى المجتمع البولندي، أو الإحالة إلى الدين، كعادته. فقط، يرصد علاقة أمّ تركت ابنيها الناضجين، لتتزوّج أربعينياً، بينما هي في الـ60 من عمرها. لكنّ الأمر ليس هذا، إذْ يكشف الفيلم عن علاقة جامحة لمارلينا، جمعتها سابقاً بابنها، الذي سيموت لاحقاً بين يديها.
“ضجيج”، للأرجنتيني ماركو بيرغر (1977)، يُعتبر الأكثر جرأة في الدورة الـ56 لـ”مهرجان كارلوفي فاري السينمائي”. يتابعُ أصدقاءً، قرّروا تمضية عطلة رأس السنة معاً في فيلا فخمة معزولة. تتحوّل أيام هذه الصحبة، المشجّعة على الراحة والاسترخاء، إلى تحرّشات جنسية تهريجية سخفية، تكشف تدريجياً الحدود الجنسية المتفجّرة لشخصية كلّ واحد منهم، من خلال التفاعل اليومي بينهم، رغم أنّ غالبيتهم ليسوا مثليي الجنس.
الإسباني “لا بيتا (La Pietá)”، لإدواردو كازانوفا (1991)، يتناول العلاقة المسمومة بين أمّ وابنها، حيث مفهوم السيطرة والتحكّم والاستحواذ من أمّ قوية على ابن خنوع، في إطار كوميدي فانتازي غرائبي، مُلوّن بالورود الزهرية، يعيش فيه ماتيو مع والدته لبيرتاد، التي يُسقِط الفيلم شخصيتها، أكثر من مرة، على شخصيات حُكّام كوريا الشمالية. إلاّ أنّ الأمور تتعقّد، مع إصابة ماتيو بالسرطان.
من أقوى أفلام هذه المسابقة، “العمّ”، للكرواتيين ديفيد كاباش (1986) وأندريا مارديسيتش (1985)، في أول أفلامهما الروائية الطويلة. تدور أحداث هذه الدراما، الهزلية والمأساوية والمقبضة، في يوغوسلافيا، أواخر ثمانينيات القرن الـ20. تسكن عائلة في فيلا ريفية منقطعة عن العالم. على عجل، يقوم أهلها، الأب وزوجته وابنه، بالتحضيرات النهائية لعشاء ليلة عيد الميلاد، إذْ سيأتي العمّ الحبيب من ألمانيا في أيّ دقيقة. لكنْ، بعد انصرافه، تتكرّر الأحداث نفسها أكثر من مرة، بطريقة مُثيرة للأعصاب، يُدرَك معها أنّهم جميعهم أسرى هذا العمّ، وتصرّفاته الغريبة الشاذة. هذا يطرح سؤالاً: ما سرّ الانصياع للعمّ، ولماذا يسلك هذا السلوك؟
في تذكير بالغ بكلّ ما مرّ في فترة تفشّي كورونا: انتشار الوباء، والعزل، والأقنعة، والتلقيح، ومنع الانتقال، إلخ، يعود الوثائقي “ربيع آخر”، للصربي ملادن كوفاسيفتش (1979)، إلى هذه الأجواء نفسها، بتناوله، في لقطات أرشيفية هائلة، جائحة فيروس الجُدري، التي ضربت يوغوسلافيا عام 1972، والتي انتقلت إلى البلد عبر سائق شاحنة جاء من العراق، واختلط بالناس من دون أنْ يدري بإصابته. فنشر الوباء، ما أدّى إلى وفاة آلاف البشر، إلى أنّ تمّ احتواؤه في النهاية، بعد حجر، ولقاحات بلغت 1000 لقاح كل ساعة، ووصلت إجمالاً إلى 18 مليون لقاح.