بلاتوهات

كان 71: سبايك لي ينتقد العنصرية في أمريكا و«أسفل البحيرة الفضية» يستعيد الموروث الهوليوودي

كان ـ «سينماتوغراف»: مها عبد العظيم

يشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2018 فيلمان أمريكيان، أبرزهما “بلاكككلانسمان” لسبايك لي الذي يسرد قصة شرطي أسود يخترق منظمة “كو كلوكس كلان” المؤمنة بتفوق العرق الأبيض. أما الفيلم الثاني “أسفل البحيرة الفضية” لديفيد روبرت ميتشل والذي يجعل من مدينة لوس أنجلوس شخصية قائمة بذاتها في رحلة بحث عن معاني السينما.

لم يشارك الأمريكي سبايك لي في مهرجان كان منذ 20 عاما، وها هو يقدم في المسابقة الرسمية للنسخة الـ71 فيلم “بلاكككلانسمان” (رجل “كوكلوكس كلان” الأسود). يستوحي سبايك لي الأطوار من قصة واقعية مدهشة، وغالباً ما يتجاوز الواقع الخيال في أجمل وأيضا أحلك جوانبه.

هي قصة رون ستالورث أول شرطي أسود ينجح في نهاية سبعينات القرن العشرين في الانضمام إلى شرطة كولورادو. سريعاً ما ينطلق الشاب في مهمة مخابراتية تتمثل في اختراق منظمة “كو كلوكس كلان”. تؤمن هذه المنظمة التي تعمل فروعها حتى اليوم، بتفوق العرق الأبيض ومعاداة السامية وكراهية السود. فتمارس مختلف أشكال العنصرية عبر استخدام العنف والإجرام. وبما أن ستالورث أسود البشرة، اعتمد في اختراق الجهاز على ربط علاقة هاتفية مع مسؤولي المنظمة، في حين يتولى زميله اليهودي فيليب زيمرمان الحضور في اجتماعاتها مستعيراً اسم ستالورث. يتقمص دور رون الممثل جون دفيد واشنطن وهو ابن دنزل واشنطن، في حين يتقمص الممثل آدم دريفر دور فيليب.

كانت إدارة هذا الثنائي تحدياً كبيراً نجح عموما سبايك لي في رفعه، فهي ينسج على منوال معهود للوضعيات الفكاهية المركبة على مسألة مأسوية. نقاط الضعف في سرد هذه الحبكة كانت حكاياتها الثانوية التي اتسمت بـ”مانوية” كان يجب تجاوزها على غرار قصة الحب بين ستالورث وناشطة سوداء، إضافة إلى عدة مواقف هزلية لا تثير الضحك.

القيمة الكبرى للفيلم تكمن في خطوط الاندفاعية والغضب والفعالية التي تميز سبايك لي واهتمامه الدقيق بالتاريخ والأفكار والكلمات. يعي المخرج أن هذه القصة تكتب في أمريكا بمواد السينما، فلا يبخل في الإحالة على تاريخ الفن وتاريخ البلاد عبر فيلم سرعان ما يتحول إلى صناعة تجريبية وملتزمة. فنرى مثلاً مشهد رجل عجوز يروي لمجموعة من الناشطين الشباب السود قصة الاعتداء جيس واشنطن، شهيد قضية الأمريكيين من أصول أفريقية، الذي تم تعذيبه وقتله ببرودة دم في بداية القرن العشرين.

وفي المونتاج موازاة مع خطاب دفيد دوك رئيس “كوكلوكس كلان” يحرض فيها أعضاء منظمته على كراهية الغير. المتعة كانت كبيرة أيضاً حين ظهر الممثل أليك بالدوين في دور عنصر من مؤيدي تفوق العرق الأبيض وهو يردد خطابا تمييزيا في حين تنطبع خلفه صور فيلم “ولادة أمة” (1915) وهو العمل المؤسس للسينما الأمريكية وصريح في تبنيه موقفاً عنصرياً. وكان “ولادة أمة” أيضاً من أهم مراجع منظمات التفوق العرقي. فبذلك لا يسائل سبايك لي تاريخ بلاده بل وتاريخ فنها، وتأثيرهما الموحد في ما يحصل اليوم في الولايات المتحدة.

فأليك بالدوين هو الممثل الذي يقلد الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب بشراسة في برنامج تلفزيوني ذي شعبية كبيرة، ليطلق وطيلة الفيلم الإشارة المباشرة لأوضاع البلاد حيث تعود بقوة نزعة قومية ضيقة الرؤية تكرس الانغلاق ونبذ الآخر. فدونالد ترامب وقع مراسيم هجرة تمنع بعض مواطني البلدان الإسلامية من دخول الولايات المتحدة، كما كانت مواقفه من أعمال عنف ومظاهرات لأنصار تفوق العرق الأبيض مثيرة للجدل. فلم يتردد سبايك لي تضمين كلمات ترامب المفضلة وهي “أمريكا أولا” في خطاب رئيس “كو كلوكس كلان” وفي ذلك انتقاد لاذع ومباشر للبيت الأبيض، لكن حتى المبالغة أحيانا فيكثر من تكرار هذا الكاريكاتور.

ثم تعم الفوضى الشاشة في آخر مشاهد الفيلم حيث يترك سبايك لي المجال لفيديوهات وثائقية عن أحداث “شارلوتسفيل” المروعة والتي شهدت في آب/ أغسطس 2017 تجمع كل المنظمات العنصرية والمداعمة لنظرية تفوق العرق الأبيض. وأكد سبايك لي في المؤتمر الصحفي عقب العرض الأول أنه “أطلق دعوة للشهود الذين صوروا بهواتفهم تلك الأحداث”، كانت إذا تلك صور عن الواقع الذي يجلب اليوم العار للولايات المتحدة، يظهر فيها عناصر تلك المنظمات شاهرين الأسلحة ورافعين شعارات الكراهية التي تقشعر لها الأبدان. وأهدى سبايك لي فيلمه للشابة هيذر لاير (بعد أن حصل على موافقة والدتها) التي لقيت حتفها في عملية دهس قام بها متطرف أبيض في “شارلوتسفيل” بعد أربعين عاما من حكاية ستالورث.

ونراهن أن “بلاكككلانسمان” سيحصل على صوت على الأقل في لجنة التحكيم وهو صوت المخرجة الأمريكية آفا دوفيرناي صاحبة فيلم “سلمى” باسم المدينة بألاباما الأمريكية التي انطلقت منها في 1965 المسيرة من أجل الحقوق المدنية للسود وفي طليعتها مارتن لوتر كينغ، وتعرض خلالها المتظاهرون للقمع الشديد.

أما الفيلم الأمريكي الثاني الذي ينافس على السعفة الذهبية، فهو “أسفل البحيرة الفضية” لـ ديفيد روبرت ميتشل. فيلم ميتشل ينهل من تاريخ أمريكي وبعيد عن النضالات الحقوقية.

“أسفل البحيرة” هي رحلة داخل الجغرافيا السينمائية لمدينة لوس أنجلوس، واسترجاع لموروثها الهوليوودي الغني. سام يبلغ من العمر 33 عاما، وهو عاطل عن العمل لكن يحلم بالشهرة. يراقب سام جارته الغامضة سارة خلسة لكنها تختفي في يوم من الأيام بصفة مفاجئة. يتحول إيجادها هوس سام الكبير وبداية تحقيق سريالي عبر المدينة. ويصل به البحث إلى الأحياء العميقة والمظلمة للوس أنجلس حيث يضطر إلى فك شيفرة عمليات اختفاء وعمليات قتل غامضة على خلفية فضائح ومؤامرات.

على غرار ما يحصل في فيلم “مولهولاند درايف” لدفيد لينش، نتقفى أسرار الفن السابع عبر عالم لا يفتح أبوابه سوى المال. فبرج المراقبة مستوحى من فيلم “شراسة العيش” (نيكولا راي 1955) حول شباب الطبقة المتوسطة وهو الفيلم الذي جعل من جامس دين أسطورة. والخزان يشير إلى فيلم “شايناتاون” وهو فيلم إثارة قاتم لرومان بولانسكي (1974) والفيلا الفخمة تحيلنا على “النعاس الكبير” لهوراد هاوكس (1946) عن مغامرات المحقق مارلو. الأمكنة في فيلم روبرت ميتشل ذات مرجعية قوية متجذرة في الفن السابع الأمريكي، لكنها وهمية في السرد الذي اختاره لها المخرج ليخرج فيلمه عن الأصناف السينمائية المعهودة، والقيمة المجازية العالية للفيلم لا تفك أي لغز.

ورحلة سام غير مجدية، ولا تفضي إلى شيء. الكلاسيكيات والأيقونات وحتى الذكريات أفرغت من معناها. ويقول المخرج بالتحديد بأن البحث عن المعنى أهم من المعنى في ذاته، فسام “تستهويه المغامرة والمخاطر ونداء المعنى. لا يبحث عن سارة لأنه يحبها بل لأن البحث يثيره. يريد أن يؤمن بعالم مليء بالغموض والشيفرات والمعاني الخفية وإن كان يخاف مما قد يعثر عليه”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى