«لابو» فيلم كولومبي يثير أسئلة حول طقوس«الدفن الثاني»
«سينماتوغراف» ـ يوسف الشايب
“لابو LAPÜ“، هو عنوان الفيلم الذي سلط فيه المخرجان خوان بابلو بولانكو وسيزار أليخاندرو خايمس، الضوء على طقوس ما يمكن وصفه بـ”الدفن الثاني” لدى الـ”وابو”، سكان كولومبيا الأصليين، في سيناريو كتباه بالاشتراك مع ماريا كانيلا رييس.
ويتعرف المشاهد للفيلم، على هذه الطقوس، بالرغم من أنه يقع في تشويش على أكثر من مستوى، من بينها نوع الفيلم أو تجنيسه، والتكرار وعدم تقديم تفاصيل من شأنها أن تسدّ نهم الفضوليين لمعرفة خلفيات الحكاية برمّتها، فيما برعا على مستوى التصوير في حالة “البورتريه”، فنقلوا المشاعر في لوحات تبدو فوتوغرافية تصلح لتكون معرضاً حول الأمر، وهذا لا يبدو مستهجناً إذا ما علمنا أن خلفية كل من بولانكو وخاميس تتعلق بالفنون البصرية الجميلة.
ويقع على المشاهد وعقب خروجه من الفيلم الذي تواصل قرابة 75 دقيقة، أن يبحث عن خلفيات طقوس “الدفن الثاني”، ليتبيّن أن لدى “الوابو” تقليداً يتثمل في دفن أحبائهم عند موتهم، والانتظار لبعض الوقت، قبل استخراج الرفات وتنظيف العظام، ونقلها إلى منزل أحد الأقارب والأصدقاء، بحيث يكون منزلها الدائم، في “الدفن الثاني“.
لكن الفيلم هنا اتجه بعيداً عن كلاسيكية الطقس في اعتماد فترة زمنية بعينها ما بين عمليتي الدفن، فبات الأمر حسيّاً، أي وفق التدفق الشعوري للقريب، وهو ما حدث مع الشابة “دوريس” التي حلمت بجدها وبابنة عمها، التي قضت منتحرة، فتقرر الشروع في رحلة استخراج رفاتها ليكون منزلها الذي تشاركها فيه أمها وجدتها، وتحيط به أسرة ممتدة، المستقر النهائي لما تبقى من عظام ابنة العمّ.
ويمكن الاستدلال من الفيلم، أن الهدف من وراء إعادة الدفن مساعدة الروح المضطربة في الحصول على شيء من الراحة، خاصة أن ابنة العم شنقت نفسها، وفي هذا الإطار يخرج “لابو” عن قالبه الوثائقي أو شبه الوثائقي، باستحضار روح المتوفاة في جسد يجول في المكان ويحاور ابنة العم “دوريس”، التي يضعونها في إطار طقوس لاهوتية قبل الانتقال إلى تفاصيل تنفيذ الفعل نفسه.
اللقطات الطويلة والثابتة، والتي تبعث على الملل، لم تحد من متعة استكشاف تلك الطقوس المرافقة للحدث، والتي على “دوريس” تنفيذها حرفياً، قبل وأثناء وبعد استخراج الجثمان، ووضع الجمجمة بما تبقى من أسنانها في كيس تضعه الشابة في الأرجوحة التي هي سريرها في تلك البقعة الفقيرة من العالم.
قبيل الحدث المنتظر كان على “دوريس” تناول اللحوم فقط، ويمنع بشكل قاطع تناول “الجبن” أو “البان كيك” قبل التعامل مع الجسد؛ علاوة على شرب كميات قليلة من منقوع يعرف باسم “الماء الناري” بعد فتح القبر، ولكن ليس بما يدفع إلى السُكر، كما عليها ألا تذهب إلى النوم مباشرة بعد تنظيف العظام، بغض النظر عن مدى شعورها بعدم الراحة، على المستويين الجسدي والنفسي.
نرافق كمشاهدين للفيلم “دوريس” إلى حيث دفنت ابنة العم، ونشاهد العمال وهم يضربون بالمطارق الحديدية على القبر الحجري لاستخراج التابوت، وسط تجمع حشد من الفضوليين من سكان المنطقة، رغم أن الرعب كان بادياً على وجوه البعض، في حين عمد البعض الآخر إلى سدّ أنفه بيده أو بضع أصابعه تفادياً لروائح ابنة العم المنبوش قبرها.
وما بعد الانتهاء من العملية الصادمة، يتجاهل الفيلم الحديث عن تفاصيل ما آلت إليه العظام، منتصرين إلى الجانب الحسي لدى “دوريس”، ولو بفنيات متواضعة بعض الشيء، وبنص شاحب نسبياً، مع التركيز على تفاصيل الطقوس مجدداً، بحيث يتم تنظيف “دوريس”، وتغسيلها بالماء أمام جمع من النساء، في طقوس شامانية ترافقها تضرعات مسيحية، ليكون العزاء الثاني كما الدفن الثاني، بحيث ينوح المارة في طقوس الحداد، قبل أن تعود روح ابنة العم إلى جسد متخيّل من حلم كان نقطة الانطلاق الأولى للفيلم، لتسائلها فيما يشبه التحقيق عن مشاعرها وهي تنبش قبرها، وتنتزع ما تبقى من عظامها، لتسكنها في مخدعها.
جدير بالذكر أن للشامانية أتباع في سيبيريا وآسيا الوسطى، بالإضافة إلى السكان الأصليين للأميركيتين، مع اختلاف الطقوس من منطقة لأخرى، وهو ما وثقه الباحث في الأساطير ميشال بيران، في كتابه “الشامانية فلسفة للحياة”، معتبراً إياها فلسفة تقدم تصوراً خاصاً للإنسان وللعالم، يقوم على أساس وجود صلة بين البشر والآلهة.
وشكّل “لابو” طريقاً معرفية لطقوس دينية وثقافية لدى السكان الأصليين في كولومبيا من جهة، وعبرها صاغ حكاية يقف فيها الموت مرتين في مواجهة حياة تبدو شكلانية، وإلى حد كبير على المستوى الجواني، بائسة.
إن المخرجين انتهزا الفرصة ببراعة، وتولد مشاركة بالتعاون الوثيق مع السكان الأصليين، وكانوا أبطال هذا العمل لإنتاج فيلمًا إثنوغرافيًا شاعرياً وشبيهًا بالحلم. فيلم رائع وتسجيل وثائقي. لا تهتم رؤية الكاميرا للطقوس فحسب، بل تهتم أيضًا بالأشخاص الحاضرين، الذين تعكس وجوههم نفس الفضول ونفس الانبهار الذي نجده لدينا في تجربة فريدة وغير عادية.