كتاب الموقع

لا تخنقوا السينما حتى لو اختلفتم معها

هل من اللائق أن يطلق مسؤول ما، أو جهة بعينها لفظ «المتهم» على شخص يعمل بالفن حتى لو كان من أطلق هذا الوصف قاضيا؟، وكيف سيؤثر هذا الوصف على جموع العاملين بالفن في مصر، وهل سيدفع الكثيرين منهم إلى مراجعة أنفسهم قبل الاستمرار في مسيرتهم التي اختاروها انطلاق من حب وعشق للسينما وأدواتها؟

بالفعل، فقد استخدم قاضي محكمة الدقي، الذي حكم بحبس المنتجة رنا السبكي سنة مع الشغل وكفالة مالية 5 آلاف جنيه وتغريمها 10 آلاف جنيه  لانتاجها فيلم ريجاتا، لفظ «المتهمة» في وصف المنتجة وفي حيثيات الحكم التي جاء فيها «إن ما أتته (المتهمة) من جرم يمثل خرقا للمجتمع ولقيمه وعاداته وأعرافه التي باتت تنهار نتيجة لمثل تلك الأعمال التي تعصف بالأخلاق والعادات والتقاليد والأعراف» و«أن تلك الأعمال من شأنها أن تحرض الشباب على الفجور وإثارة الفتن في خياله وإيقاظ أحط الغرائز في نفسه».

وقد صدر الحكم منذ اسابيع رغم أن الفيلم قد بدأ عرضه في 21 يناير 2015، حين أثار الفيديو الدعائي الخاص بالفيلم الجدل لما احتواه من ألفاظ وإيحاءات، اعتبرها البعض خارجة عن الذوق والآداب العامة، وهو ما دفع قدم المحامي سمير صبري، الى تقديم بلاغ ضد محمد السبكي وابنته رنا، يتهمهما فيه بنشر مصنف فني يحتوي على صور خادشة للحياء، وحُددت جلسة للقضية في أكتوبر الماضي، وأُجلت عدة مرات حتى صدر حكم ببراءة محمد السبكي وحبس ابنته.

والمتأمل في في حيثيات الحكم بحبس رنا السبكى يصدم من التهم التي وجهتها اليها المحكمة، ومنها أنها خرقت المجتمع وقيمه.. وأسقطته في بئر من الانهيار الأخلاقي وفساد الذوق العام.

وعن حرية التعبير والإبداع قالت المحكمة: «إن كان حق الإبداع من الحقوق التي كفلها الدستور إلا أن ذلك الإبداع مقيد بالدستور أيضا الذي أورد في مادته الثانية أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، ومن ثم فإن الإبداع لابد أن يكون مقيدا بما أوجبته علينا تلك الشريعة من عدم إثارة الفتن وحسن تربية النشء».

ولا يمكن النظر إلى مثل هذا النوع من البلاغات والدعاوى إلا باعتبارها دعاوى حسبة تمثل إهانة لحرية الفكر والإبداع التي يكفلها الدستور المصري وإهانة لدولة المؤسسات. فالحكم ضرب عرض الحائط بسلطة الرقابة على المصنفات الفنية التي أجازت عرض الفيلم للجمهور. وأكدت أن جهاز الرقابة هو الوحيد في الدولة المخول بتقييم ومنع أو إجازة الأفلام، وأن تلك الإجازة تعني أنه لا مسؤولية قانونية تقع على صاحب هذا المنتج بعد موافقة الجهات الحكومية عليه.

ولعل أشد ما يؤلم في هذه القضية أن المحكمة لم تلق بالا لحق الإبداع المنصوص عليه بالدستور المصري، وقالت «إن كان حق الإبداع من الحقوق الدستورية إلا أن ذلك الإبداع مقيد أيضا بالدستور، ونص في مادته الثانية على أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، ومن ثم فإن الإبداع لابد أن يكون مقيدا بما أوجبته علينا تلك الشريعة من عدم إثارة الفتن وحسن تربية النشء».

وما يؤلم أكثر أن «المتهمة»، كما وصفتها المحكمة، حصلت على الموافقات المطلوبة من الرقابة على المصنفات الفنية، وهي الجهة الوحيدة المنوط بها إصدار التصاريح والموافقات على الأعمال الفنية قبل الشروع في إنتاجها، إضافة إلى عدم وجود ضرر مباشر لرافع الدعوى القضائية ضد الفيلم ومنتجته وهو المحامي سمير صبري الذي اعتمد في دعواه على الفيلم الترويجي الذي أطلقته الشركة المنتجة للفيلم قبل طرحه في دور السينما.

والمتتبع لحال السينما المصرية يدرك بكل جلاء حجم المعاناة التي تعانيها بسبب التوسع في محاكمة الفن والفنانيين واتهامهم اتهامات مطاطة تتراوح بين «الاساءة للدين والاستهزاء بمرتدي الجلباب والحجاب والنقاب»، و«إزدراء الأديان»، ونشر الفساد والحض علىه ونشر الانحلال وغيرها.

والغريب في الأمر أن أكثر الأفلام المصرية التي حوت مشاهد يمكن النظر إليها على أنها «مشاهد خارجة» من وجهة نظر الكثيرين، وهو فيلم «حمام الملاطيلي» للمخرج صلاح أبوسيف لايزال يعرض حتى الآن في بعض القنوات ولم يطلب أحد وقف عرضه ولم يحاكم من قدموه رغم أنه عرض عام 1973 أي قبل 43 عاما.

وهناك العديد من الأفلام المشابهة التي قدمها مخرجون أصحاب رؤى متقدمة مثل المذنبون، وزوجتي والكلب، وثرثرة فوق النيل، وغيرها تعج بالحوار الصادم والمشاهد القاسية ولم تجد من يهاجمها بمثل تلك الضراوة التي قابلت أفلاما حديثة مثل للحب قصة أخيرة، باحب السيما، ولامؤاخذة.

ويأتي الهجوم على هذه الأفلام واتهامها بالترويج للجنس أو ازدراء الأديان في الوقت الذي يستطيع فيه أي طفل مصري الوصول إلى ما يريده من مواقع بكبسة زر ودون عناء ولم يعد أحد يستطيع السيطرة على ما يصلنا عبر الانترنت وغيره. هذا إضافة إلى ما تقدمه القنوات الفضائية من برامج لا يتفق عليها من أطراف عديدة ويعتبرها البعض «بغيضة».

والمحصلة النهائية التي نخشى الوصول إليها هي تراجع الكثير من الفنانين عن العمل في السينما، أو التقيد بخط واحد ووجهة نظر واحدة إرضاء للداعين إلى «السينما النظيفة»، وكأن هناك سينما نظيفة، وأخرى غير نظيفة!. فالسينما هي السينما، فن مجرد يقدم رؤية القائمين عليه وهي رؤية تختلف باختلاف صاحبها.

لقد كانت السينما هي النافذة التي نظرنا منها إلى العالم المحيط بنا سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وظلت بالنسبة إلينا الفرحة والبهجة، وبِدورِها شاهدنا نجوما كنا نحلم بهم ونقلدهم في مرحل عمرنا الأولى، ولاتزال السينما، بافلامها ودور عرضها، حتى اليوم تحتل نفس المكانة في قلوبنا رغم القنوات الفضائية وما تقدمه لنا من أفلام سهلة المنال، فلا تحرمونا من متعة اعتدناها، بل اعملوا على تشجيع الإبداع وشطوح الأفكار، فهما السبيل الى التجديد والابتكار حتى لو اختلفنا معهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى