«لا لا لاند».. قصة حب متوهجة بالشغف والموسيقى وقسوة الحياة
ـ محمد جابر
منذ مطلع عام 2016، كان فيلم “لا لا لاند ـ la la land” واحداً من أكثر الأفلام الفنية المُنتظرة. كلُّ شيء بشأنه، كان برَّاقاً مع البداية الأولى لعروضه الدعائيّة. الألوان والموسيقى والتجربة تبدو مختلفة جداً.
وازداد الحماس بعد عروضه الأولى في مهرجاني “فينيسيا” (حيث فاز بجائزة أفضل ممثلة لإيما ستون) ثم تورنتو (فاز بجائزة أفضل فيلم باختيار الجمهور). ومع بداية عرضِه التجاري في صالات السينما، تحول فيلم “لالا لاند”، للمخرج، داميان تشازل، إلى ظاهرة، إذ اكتملت كلّ عوامل نجاحه نقدياً وجماهيرياً. ودخل السباق منافساً أول على جوائز الأوسكار.
لمع المخرج، داميان تشازل، قبل عامين مع فيلمه Whiplash. الفيلم الذي بلغت تكلفته 3 ملايين دولار فقط، اعتبِر من أفضل أفلام 2014، وفاز بثلاثة جوائز أوسكار في نهاية رحلته، مما سمح لتشازل بمساحة أكبر داخل هوليوود، وميزانية مضروبة في 10 لإنجاز فيلمه الثاني، أي 30 مليون دولار من أجل La La Land، وهي ميزانية منخفضة جداً لفيلم أميركي، ولكنها أكثر من كافية لتشازل كي يرسم الجنة، ويؤكد أنه “مخرج عظيم قادم بقوة”.
حكاية الفيلم بسيطة جداً. يتناوَل العلاقة بين فتاة تعمل في مقهى، وتحاول أن تحقّق حلمها الأكبر في أن تصبح ممثلة، وعازف جاز يعاني على المستوى المادي بسبب عدم رغبته في التنازل عن شكل الموسيقى “الكلاسيكي” الذي يحبه، إذ يخبره الجميع بأن “لا أحد يريده الآن”.
تجمعُ الشخصيّتين أكثر من صدفة. والأهمُّ في الفيلم، هي التفاصيل التي لها علاقة بأحلامهما وشغفهما. ينسجُ تشازل ذلك بعذوبة بالغة طوال النصف الأول من أحداث الفيلم، يجعلهما، في بناء قصة الحب، فوق الأرض (حرفياً كما يحدث في أحد المشاهد) ويلمسان السماء، قبل أن يتحرك في نصفه الثاني، وبنضوج شديد حول الأزمات التي قد تمر بها تلك العلاقة، وقسوة الحياة التي يتعرض لها كل من “سباستيان” و”ميا” معاً.
نلمسُ الأرض التي جعلنا تشازل نحلّق فوقها. ويكونُ الأمر مُؤثّراً جداً بسبب قدرته على توريطنا عاطفياً مع كل ما حدث منذ البداية. الأمر يكتسب قيمته وأثره الأكبر بسبب الجانب الفني والشكلي الذي يتألق فيه تشازل. لا يوجد ما يضاهي جمال هذا الفيلم بين أعمال 2016، صورته وتصويره وأزياؤه، والموسيقى (أغنية City of Stars بأصوات الأبطال هي شيء أكثر عذوبة من أن يُحْكى عنه)، وإلى جانب كل هذا (وربما أهم منه) الحضور الطاغي والكيمياء الاستثنائية بين ريان غوسلينغ وإيما ستون على الشاشة.
لم تشهد هوليوود منذ سنوات طويلة فيلماً بخصوصية هذا العمل. منذ مشهده الافتتاحي، يبدو كأنّه إعادة إحياء مباشرة وواضحة لنوعية “الأفلام الموسيقية” التي كانت ذروتها في أميركا خلال الخمسينيات والستينيات، حيث السينما السكوب (أبعاد الصورة في الفيلم أعرض قليلاً من المعتاد)، والألوان والأزياء المميّزة مع زخمٍ موسيقيّ لا ينتهي. نتذكَّرُ بسهولةٍ كلاسيكيّات موسيقيّة مثل Singin’ in the Rain أو West Side Story أو Sound off Music. تشازل لا يحاول مراوغة أن يبدو كل شيء في النصف الأول أقرَب للحلم. زرقة المدينة في الخلفية مع رقصات ريان جوزلينج وإيما ستون (بفستانها الأصفر) هي واحدة من أكثر الصور السينمائية أيقونية خلال السنوات الأخيرة، وكذلك لحظات مثل انعدام الجاذبية، أو قبلة السينما للمرة الأولى. كلُّ شيء حالمٌ ومثاليّ ويجعل المشاهد مبتسماً.
ذلك التوجُّه يكتسب قيمة أكبر مع بقيَّة أحداث الفيلم، خصوصاً أن تشازل، ككاتب سيناريو أيضاً، يرسُم حدوداً واقعيّة ذكيّة في نصفه الأول. نعرف إحباطاتهما العملية، ونعرف عن ملاحقتهما لأحلامهما العسيرة التحقق للغاية في تلك الظروف. وندرك مبكراً أن سبيلهما لتحقيق ما يريدانه (أن تصبح “ميا” ممثلة أو يفتتح “سباستيان” ناديه الخاص للجاز) قد يعرّض العلاقة لهزّات صعبة، ولكننا نتجاهل ذلك كما يتجاهلانه. تكون الفترة الأولى، ككلّ فترات العلاقات الأولى، ذكرى مثاليّة بالنسبة للمشاهد في كل تفاصيلها، كأنّه شريك ثالث لهما. ومع ازدياد الضغط، كما يحدث في الحياة، تخلى “سباستيان” عن الموسيقى التي يحبها ( مقابل ألف دولار أسبوعياً التي تعني الكثير) وإحباط “ميا” كممثلة بعد عرض مسرحي فاشل.
غوسلينغ في أفضل أدواره خلال السنوات الأخيرة، ممتلئ بالشغف والحياة، خصوصا في المشهد الذي يحكي فيه لـ”ميا” عن موسيقى الجاز تشعر بأن قلبه ينبض فعلاً بكل ما يقوله. وفي النصف الثاني، حين يبدأ في الانكسار قليلاً تحكي عين “غوسلينغ” ونظراته عن كل شيء. أما “ستون” فهي “تلمع وتخطف الهواء من القاعة”، كما وصفت في فينيسيا. سحر وصدق لا يضاهى، في لحظات غنائها وحركاتها الجسدية وشكلها (الذي تبدو فيه كأنها من أميرات هوليوود القدامى) ثم لحظات الحزن والإرهاق والشعور بأنها اكتفت. تحتل ستون الشاشة وتتألق في كل لحظة من ظهورها. فغوسلينغ وستون هما أفضل ثنائي هوليوودي، ليس في 2016 فقط بل ربما في السنوات الأخيرة كلها.
ومع نهاية الأحداث، يخلق تشازل (بثنائية الذكرى والزمن) واحدة من أكثر النهايات السينمائية المؤثرة على الإطلاق. نشعر مرَّة أخرى كأن تلك العلاقة تخصنا، وأنه من المحزن جداً أن تنتهي كل تلك الذكريات إلى كونها فقط “مجرد ذكريات”، لتكون الإيماءات التي يقوم بها “ميا” و”سباستيان” لبعضهما في آخر لقطتين بالعمل، هما شيء لا ينسى. نهاية رائعة لقصة حب من أجمل ما صورته السينما مُؤخّراً.