لماذا اختير «مولهولاند درايف» كأفضل فيلم منذ عام 2000؟
الوكالات ـ «سينماتوغراف»
أمر حير المشاهدين، لكنه أسعد النقاد، وهو: لماذا جاء فيلم “مولهولاند درايف” على رأس قائمة استبيان موقع “بي بي سي” لأعظم الأفلام في القرن الحادي والعشرين؟ الصحفي الفني لوق باكماستر يسعى لتفسير ذلك.
مرت السينما في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين بشيء أشبه بأزمة وجود، وكانت مصطلحات من قبيل: “هذا منتج أشبه بالعمل التليفزيوني، وليس السينما” تدل على الإهانة في مجال صناعة السينما.
أما الآن، وفي فترة يعتبرها معظم النقاد “العصر الذهبي الجديد للتليفزيون” بوجود أعمال لممثلين من أمثال دون دريبير، وولتر وايت، لم يعد الأمر هكذا. ولذا، فإذا كان التليفزيون قد ارتقى إلى مرحلة لم يعد يعتبر معها فنًا دونيًا، فما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للسينما؟
لعله ليس من قبيل المصادفة أن تأتي دراما المخرج ديفيد لينش المتعلقة بموضوع فقدان الذاكرة، وما يكتنفها من غموض، في فيلم “مولهولاند درايف” على رأس قائمة استبيان “بي بي سي” للنقاد كأفضل فيلم في هذا القرن حتى الآن.
وهذا الفيلم في الواقع يضرب بجذوره في سياق الأعمال التليفزيونية، فقد بدأ كمشروع فيلم تليفزيوني فاشل، وتم إنقاذه بعد تحويله إلى فيلم سينمائي طويل.
وليس من قبيل المصادفة أن يجتمع في فيلم “مولهولاند درايف” تاريخه المضطرب، ومكائد السينما والسلطة أيضا، وهو ما يصوره لينش في الفيلم نفسه.
فتحت الواجهة الخلابة التي هي أشبه بالحلم، يعتبر فيلم “مولهولاند درايف” تعليقا بارعاً على مكائد هوليوود، ويعكس الفيلم أيضًا في جزء منه ما تعيشه السينما من محن حاليًا.
تغيير المسار
تقدم مخرج الفيلم، أثناء تطوير العرض التليفزيوني “توين بيكس”، بعرض فكرة “مالهولاند درايف” لتقدم كمسلسل عام 1998، وتلقى الضوء الأخضر من شبكة “ايه بي سي” الأمريكية التي كانت تأمل في تكرار نجاح مسلسل “غموض مدينة صغيرة” للمخرج ذاته.
ولم تعجب “ايه بي سي” بالحلقة الأولى بوصفها بطيئة الإيقاع، وطويلة المدة الزمنية، بما لا يتناسب مع الوقت الذي يخصص عادة لحلقات المسلسل التليفزيوني. وقد اعترضت القناة كذلك على عدة أشياء التقطتها الكاميرا ربما لم تكن مقصودة.
وتمكن لينش في أوائل عام 2000 من إنقاذ المشروع بموافقته على تحويل “مولهولاند درايف” إلى فيلم سينمائي طويل متسلحًا بميزانية ضعف الميزانية الأصلية.
ومن الشخصيات البسيطة الغامضة شخصية روك الغامض (الممثل مايكل جيه اندرسون) الذي يبدو وكأنه يهيمن على هوليوود من كرسيه المتحرك في مكتبه.
ومن الحبكات المتضمنة في الفيلم أيضا صورة مدير اللقطات الساخنة (جستين ثيروكس)، وهو يرفض ضغوطًا لتصوير ممثلة في بداية مشوارها السينمائي.
وبعد أن أدخل لينش على فيلم “مولهولاند درايف” تصورات بالغة الحدة، بل وتتسم بالتشاؤم فيما يتعلق بقوى السيطرة على السوق في هوليوود، فضلاً عن إقحامه العديد من الصور الخادعة، تمكن من التوصل إلى تركيبة فيلم مثيرة، نالت إعجاب النقاد.
فقد كانوا يغرقون في متاهات أجواء أشبه بالحلم، وفي الوقت ذاته يعيشون حالة فكرية تنتقد بشدة الواقع التجاري المادي لصناعة السينما.
تفسير الأحلام
الشخصية المحورية في الفيلم هي بيتي المس التي تؤدي دورها الممثلة ناوومي واتس، وهي ممثلة مرحة طموحة تصل إلى المدينة لتبحث عن عمل، وسرعان ما تمحي عن وجهها ابتسامتها التي تعكس سعادة ظاهرة.
وتلتقي بيتي بصديقتها ريتا ذات الشعر الأسود، والعيون الجميلة، وتلعب دورها الممثلة لورا هارينغ. وتتعثر ريتا في “مولهولاند درايف” بعد أن نجت من حادثة سيارة، وهي الحادثة التي أدت بها إلى فقدان الذاكرة.
ولا تتذكر ريتا حتى اسمها، وفي الواقع، لم تسم نفسها ريتا إلا بعد أن رأت ملصقاً قديما من فيلم ريتا هيوارث “جيلدا” من عام 1946، خلال سعيها لكشف معلومات عن ماضيها.
إلى جانب ذلك، تأتي رحلة بيتي للبحث عن العمل كممثلة ضمن جملة من القصص الأخرى لتشكل لوحة تفصيلية كالفسيفساء ذات النقوش الصغيرة. فبعض القصص لا تستغرق سوى مشهد أو مشهدين.
وفي سياق مناقشة حول أفضل فيلم في رأي النقاد في القرن الجديد حتى الآن، ربما يمكن تكوين رؤية محددة من خلال عقد مقارنات مع أفضل فيلم في القرن الماضي من وجهة نظر النقاد.
والفيلم الذي يأتي مرارا على رأس تلك القائمة، هو فيلم “المواطن كين” الذي أخرجه وكتبه أورسون ويلز. فالنقاد الذين استعانت بهم “بي بي سي” لاختيار أعظم مئة فيلم أمريكي العام الماضي، وضعوا “المواطن كين” على رأس القائمة.
وإذا كان لنا أن ننظر إلى فيلم “المواطن كين” كمحاولة لتبيان مفاتيح صناعة السينما، وكإضاءات كاشفة في مجال العمليات التقنية، بدءاً من المونتاج إلى تعديل الصور والمشاهد، إلى مرحلة إحلال مشاهد مكان أخرى، والتوظيف الفني للمشاهد، فإن “مولهولاند درايف” من حيث الجاذبية يعتبر أكثر عمقًا فيما يتعلق بالموضوع، والمفاهيم، والتصورات.
وتعد الموضوعات الداخلية التي يعرض لها لينش ثائرة وجامحة، وغير تقليدية. فهى عبارة عن أحلام تتحقق، وفقاعات أفكار جنونية تبعث فيها الحياة.
وفي حين يبدأ فيلم اورسون ويلز بلحظة مقتضبة من السريالية، وتشمل كرة أرضية من الجليد، ثم يتحرك الفيلم في شكل أكثر مباشرة، يبقي لينش على الجو السيريالي طوال فيلمه، وبهذا المعنى يمكننا القول إن “مولهولاند درايف” يبدأ من حيث انتهى فيلم “المواطن كين”.
وتفسح الخصائص التي يتوفر عليها الفيلم، والتي تشبه الأحلام، المجال أمام أمور غامضة ومربكة، لا تفسير لها، وتشجع بطبيعة الحال على إطلاق العنان للتفسير والتأويل.
ولكن كما يقول الناقد روجر إيبرت، وهو واحد من أكبر المتحمسين للفيلم: “ليس هناك أي تفسير محدد، وقد لا يكون هناك حتى أي غموض”.
ولا شك أن الفيلم ينطوي على تحديات، فالخروج عن الموضوع في كثير من مواضع الحبكة المثيرة للفيلم يجعل هناك بترًا، كبتر الأطراف المسرطنة.
وتظهر الشخصيات، وتختفي، في وقت متأخر من التتابع الزمني للفيلم، فبعد مشهد يظهر البطلة وقد أفاقت من حلم طويل، تتحول البطلة دون أي تفسير من بيتي المتفائلة إلى مجرد ممثلة متهالكة.
بيد أن ما يعلق في الذاكرة أكثر هي تلك اللحظات البسيطة القائمة بذاتها، والتي تكسب الفيلم هذا النسيج الفسيفسائي. ولعل أعظم هذه المشاهد هو مشهد نادي سايلانسيو الشهير، وهو مشهد لا يمحى من الذاكرة بسهولة. فهو يجمع بين التجربة الحسية السخية، وانعكاساتها على الذات، مما يكشف عن تفاصيل مثيرة ومدهشة يضمها الفيلم.
في هذا المشهد، يصعد مقدم الحفل في ذلك النادي السيريالي إلى خشبة المسرح ويصيح قائلاً “لا توجد فرقة هنا”، بمعنى أن جميع الأصوات التي يسمعها الحضور قد سجلت من قبل، وهي تبدو حقيقية لكنها مجرد ضرب من الوهم.
ومع ذلك ينسجم الحضور مع أداء مثير لأغنية روي اوربيسون على المسرح، وهي أغنية جميلة تأسر القلوب، قبل أن يسقط المغني فجأة ميتًا وتسحب جثته إلى الخارج.
التأثير مذهل ومربك حقًا، ويتفنن لينش في خلق الوهم من خلال خفة اليد التي تجعل الحيلة تنطلي علينا. وبمعنى آخر، فإن سحر الأحلام، إلى جانب سحر المشاهد السينمائية، يجعل فيلما بعينه أكثر قابلية للفهم والتفسير من أفلام أخرى.
ولا شك أن هناك شيئاً ما يتسم بالجاذبية اللا متناهية يتعلق بكل فيلم، مما يجعل الأسئلة تسمو فيه عن الإجابات المحددة، وهو ما يوسع من توقعاتنا أيضا لما يمكن أن تحققه السينما.
ولعل أكبر غموض في هذا الفيلم هو كيف تمكن لينش من إنجاز هذا العمل رغم كل تلك المصاعب والتحديات.