أحداث و تقارير

«مانشستر باي ذا سي».. جماليات مدهشة وإيقاع يفوح بالألم والحزن

09-09-16-965041861باريس ــ حميد عقبي

بعد أن تركته زوجته راندي، أصبح «لي» يعمل كحارس لعدة عمارات سكنية في بلدة نائية جدا عن مسقط رأسه الذي نشأ وترعرع فيه، تبدو حياته مملة وقاسية، تنقلب حياته رأسا على عقب عندما يتوفي «جو» شقيقه الأكبر بسبب نوبة قلبية مفاجئة، في وصية الأخ المتوفي يكون «لي» الوصي القانوني لابن أخيه «باتريك»، وهو شاب مراهق 16 عاما.

كان لديه ثلاثة أطفال، فقدهم جميعا في حريق مرعب لبيته وهو ليس مستعدا على الإطلاق لهذه المسؤولية الجديدة، خاصة وأنه ينوي العودة إلى المدينة التي يعمل فيها، يعلن عن عجزه للبقاء في مسقط رأسه فالذكريات المؤلمة من حوله تزج به إلى الجنون، يحلق بنا الفيلم أيضا مع «باتريك» هذا المراهق الذي ينقسم بين صديقتين وموسيقى الروك والرفاق والرياضة، ولا يريد ترك كل هذا والذهاب إلى مدينة أخرى بعيدة ولا يقبل وصاية عمه المنهار والمنعزل عن العالم.

9e5e7bacffc949f28f8cbe3369d94c0c-9e5e7bacffc949f28f8cbe3369d94c0c-0

يعود «لي» إلى مسرح المأساة الرهيبة التي دمرت حياته والمرجح أن البطل يقاسي من ألم الشعور بالذنب ويُحمل نفسه مسؤولية الحريق الذي خطف أطفاله ووجوده في هذا المكان أمرا ليس سهلا، لا يظهر أن لديه رغبة في الحياة أو قدرة على التواصل مع الآخرين وبناء صداقات أو علاقات مع الجنس الناعم وفجأة قد يتحول إلى عدواني ويدخل في شجارات غبية في الخمارات، على النقيض منه الشاب المراهق «باتريك» الذي يحب الحياة والفتيات والرياضة والمؤسيقى والرفاق، عالمان متناقضان وعليهما التعايش والبحث عن حل وطرق للتفاهم.

من المعروف أن هوليوود صانعة البطولات الخارقة والمهيمنة على الأفلام الكوميدية المرحة والتي تميل إلى البهرجة والمستحوذة على السوق، هنا نحن مع فيلم مختلف وكأننا مع مخرج ومنتج وأبطال من خارج هوليوود وميولاتها، نحن مع المخرج كينيث لونيرغان في فيلم «مانشستر باي ذا سي ـ Manchester by the Sea» ووجوه شهيرة  كيسي أفليك في دو «لي» وميشيل ويليامز في دور «راندي» والممثل الشاب لوكاس هيدجي في دور «باتريك» المراهق المتمرد وكايل تشاندلر في دو الشقيق «جو»، هذه المجموعة تقدم فيلما له رائحة وإيقاع يفوح بالألم والحزن لكنه يمتلك الكثير من الجماليات المدهشة التي تنسكب في هدوء وبطرق سلسة ومرنة وسرعان ما نجد أنفسنا ننقاد إلى هذا العالم المشحون بتجربة إنسانية مفجعة.

قصة حزينة لا تعني أن نشاهد ونسمع الصراخ والنحيب والبكائيات، لكن لا يعني أيضا غيابها، حضر كل هذا وأكثر وحاولت الكاميرا قرائته على وجه البطل «لي»، فالصمت والهروب من الناس حوله ومنا أيضا كمتفرجين، كيسي أفليك يقدم روحا متعبة ومرهقة وليس شخصية عادية يبدو هنا يقاوم الصراخ والثورة ضد القدر الذي سلبه كل شيء، تعابير الوجه ونبرة الكلام وحركة اليدين وكل خطوة ونفسّ تُظهر حجم ما يحدث في الداخل، لا توجد حوارات ولا ميلودراما ولا نكتشف هذا الألم في عيادة طبيب نفسي ولا يكتب أو يبوح البطل بوجعه، كان الفلاش باك وسيلة غير عادية وتم التعامل معها بحرفية ذكية، تخرج الصور من داخل عمق الشخصية وتكون بمثابة متنفسّ ويتلقاها المتفرج ويعجز عن منعها من التسرب إلى داخله، «لي» يقذف بذكرياته على دفعات كشظايا تصيبنا جميعا ولا مفر لنا من النجاة.

نصاب برعشة ثم تتحول إلى رجفة تدفعنا لمشاركة البطل تجربته المؤلمة وتستيقظ بداخلنا تجاربنا الشخصية كوننا في هذا العالم المضطرب بالحروب والكوارث ولكل شخص منا وجعه، وخاصة إذا كنا قد فقدنا شخصا عزيزا علينا في كارثة أو حرب، فالحريق وتفحم أجساد الأطفال هذا الحدث الكارثي والذي يتكرر عشرات المرات في عالمنا اليوم بسبب الحروب القذرة ويبدو أن تكرار الصور المباشرة التي تبثها القنوات الأخبارية جعلت بعض الضمائر تتبلد وأصبح الحس الإنساني باردا، هنا نتعايش مع الألم الإنساني وكأننا مع فيلم يحاول تنبيه ضميرنا ليتفاعل ليس مع هذا الحدث فقط بل لكل المآسي المؤلمة المشابهة.

https-%2f%2fblueprint-api-production-s3-amazonaws-com%2fuploads%2fcard%2fimage%2f204995%2f658ddcbd32614e599045bbcd644af529

الجمال في هذا الفيلم يتفجر من حكاية مؤلمة وعاطفة قوية تثير فينا الرجفة الروحية، هذا الخلق الإبداعي المحبوك بفرشاة كاميرا نسجت من هذا الفضاء البارد حمما تقذفها إلى الروح مباشرة، هذا الوجود ومتناقضات الواقع وقبحه تحتم على إنسان اليوم ألا يظل مستسلما ولا يعني هذا أن نمتلك قلبا ميتا ولكن يجب الشعور بالعواصف والحروب المحرقة من حولنا وأن نشعر بضحاياها.

أساليب السرد كانت ذكية ودقيقة وحافظت على حضور الواقع  كي تبرز الحالات والعلاقات الإنسانية التي تشوبها الكثير من التعقيدات، هذا المونتاج الأنيق تلاعب بنا وجعلنا نعجز عن التخمين ومعرفة ما سيحدث لهذا الرجل الذي دمره القدر في لعبة غير عادية.

الوجه الآخر للواقع المعاش نحسه مع «باتريك» الشاب المشاكس والطائش والمشتهي للحياة ولا يزن الأمور بحسابات أخلاقية في التلذذ بالحياة، لسنا مع شخصية شريرة فقط كونها تتوق للمتعة، هذا المراهق يمارس الجنس مع فتاتين وقد يتعارك مع رفاقه ثم يتصالح معهم وهو يحب البحر والصيد ويريد أن يظل حرا ويتمتع بكل شيء،  موت الأب فجأة كانت صدمة تجاوزها بسرعة فنراه يدعو أصدقائه ليلة موت والده وسرعان ما يشاركهم مزاحهم ثم يصعد لينام في حضن فتاته، ويظل موت والده مجموعة من الإجراءات كالبحث عن مقبرة وما يلحقه في مثل هذه المواقف، نحن لسنا مع صراعات عنيفة ولكننا مع مواجهات لعدة وجهات نظر مختلفة، فلكل شخصية فهمها الخاص للواقع وأسلوب حياة مختلفة، «راندي» طليقة «لي» تزوجت وتنجب ولكن الماضي يلاحقها، أن تدفن أحزانها وتتزوج وتنجب ما فعلته ليس جرما وتثور مشاعر حبها للبطل لكنه يفضل الهروب متمنيا لها حياة سعيدة.

manchester-1

نعم هذا الفيلم دراما مؤثرة لم يسقط أبدا في الميلودراما ولا المباشرة فالعاطفة والحزن جهيش داخلي موجع، ورغم هذا الوصف فهو فيلم جميل ولا يتهرب من الواقع الاجتماعي والأسري وممزوج بلمسات كوميدية تجبرك على الضحك، كينيث لونيرغان يستخدم لغة سينمائية مكثفة وذكريات الماضي محبوكة بذكاء، عبر ومضات ورعد الفلاش باك نقع فريسة أزمنة متداخلة ونشتبك تدريجيا مع المأساة وهي تنخر بطل الفيلم والتي لم تكن وليدة الشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى