بلاتوهات

«متشابهون».. فيلم تونسي يعيد تشكيل ماض لا يختلف كثيراً عن الحاضر

«سينماتوغراف» ـ حنان مبروك

 منذ نحو خمسة وثلاثين عاما وقف الروائي التونسي محمد الناصر النفزاوي في روايته “المتشابهون” وقفة الراوي المتفحص للأحداث التي شهدتها تونس والعالم العربي خلال الستينات من القرن الماضي، ليعيد تجسيد البعض من أحداث نكسة 1967 وصولاً إلى فشل تجربة التعاضد في تونس، وما تبعها من تغيرات اجتماعية وثقافية كانت انعكاساً حتمياً للفشل الاقتصادي والسياسي.

وبعد نحو ثلاثة عقود عاد المخرج السينمائي التونسي حبيب المستيري إلى الرواية ليقتبس منها موضوع فيلمه “متشابهون” الذي حاز على جائزة أفضل سيناريو من مهرجان وجدة للفيلم المغاربي.

ولم يقف المستيري عند مجرد الاقتباس من الرواية، بل أضاف إلى نصها الأصلي إسقاطات ممّا عاشته تونس في العشرية الأخيرة، والتي آلت بالبلاد إلى حكم الإخوان، وكانت سبباً في المزيد من التعصب والرفض للآخر، وانتشار للإرهاب والعنف والكراهية.

ويراوح الفيلم بين الحاضر والماضي، إذ تجمع مشاهده بين صفحتين من تاريخ تونس الحديث، يطرح من خلالها المستيري قصة من قصص التعايش بين الأديان فيها، في ظرف صعب ودقيق إبان حرب 1967 وخلال الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة التي جرت في تونس سنة 2019.

وقد خلفت نكسة العرب في العام 1967، أو ما يعرف أيضاً بحرب الأيام الست، أحداثاً مأساوية، خلّفت خسارة العرب في صراعهم مع إسرائيل وحملة التهجير الواسعة التي طالت الفلسطينيين مقابل عمليات استيطان مكثفة.

وطالت اليهود في كل بقاع الأرض، وتونس واحدة منهم، حملات رفض واسعة حيث لاحقهم التونسيون المتألمون للنكسة وأرغموهم على الهجرة هربا من القتل والتعذيب، وخسر عدد كبير منهم ممتلكاته وصارت أرزاقهم “تركة” يتقاسمها الجيران.

يقول المستيري عن فيلمه “إنه يجمع بين فترتين مهمتين وعصيبتين وخارقتين للعادة في تاريخ تونس، أما الفترة الأولى فهي حرب 1967 وانعكاساتها على التعايش السلمي بين الديانات في تونس، وأما الفترة الثانية فهي انتخابات 2019 التي يستعرض الفيلم تفاصيلها انطلاقاً بما تعايشه شخصية حارس مأوى للسيارات بمنطقة لافايات الواقعة في العاصمة تونس، حيث يقيم عدد من يهود تونس سيكون هو شاهدا على ما حلّ بهم في المرحلتين“.

وتمّت كتابة الفيلم بروح معاصرة ورؤية جديدة فيها مراوحة بين الماضي والحاضر تمثيلاً وتوثيقاً، وهي مراوحة تعرض المعضلات التي تواجه الأقليات وتكشف جوانب كبرى من شخصية التونسي وتطوّرها عبر السياق الزمني، ومدى استعداده لتقبّل الآخر والعيش معه بعيدا عن الاختلافات الدينية والسياسية.

ويحكي الفيلم قصة “شفروت” (تنطق أيضاً شفرود في بعض الجهات التونسية)، وهو حارس مأوى سيارات بحي لافايات حيث يقيم عدد قليل من يهود تونس، ويكافح كي ينسى ذكريات أليمة شهدها مع نكسة 1967 فكبرت معه وأثّرت في تكوينه النفسي وعلاقاته الاجتماعية وحتى العاطفية.

تتملّك “شفروت” موجة من الذهول والحيرة وهو يتابع التطورات السياسية التي تعيش على وقعها تونس خلال الحملتين الانتخابيتين التشريعية والرئاسية الماضيتين، مستمعاً لخطابات ووعود واهية، يعيدها على مسامع المشاهدين من حين إلى آخر، حيث تضمن الفيلم تسجيلات لأحداث تاريخية، وانتقل بالمشاهد من إذاعة صوت العرب إلى صوتي قيس سعيد وراشد الغنوشي في انتخابات 2019.

وكأنّ المخرج يقول من خلالها إن الماضي لا يختلف كثيراً عن الحاضر وبعض الوعود التي ألقاها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة والنقابي أحمد بن صالح على مسامع التونسيين لا تكاد تختلف كثيرا عن وعود السياسيين الحاليين الذين ثبت أنهم يبيعون للشعب الوهم ويرهنون مصيره لأيديولوجيات وتيارات فكرية لا تمنحه عيشا كريما ولا تسير ببلاده نحو ركب التقدم والحضارة.

وبعد أن يقضي سنوات حبيس زنزانة تقيّد حاضره وتسيّر أحلامه، يخرج بطل الفيلم “شفروت” الذي يؤدي دوره الممثل والمخرج نصر الدين السهيلي، ليواجه واقعاً أشد غرابة من ماضيه، فبعد أن ترك البلاد غارقة في أزمة التعاضد ونكسة 1967 خرج ليجدها فريسة أزمة ديمقراطية لم تحمل معها للبلاد سوى حركات إسلامية متشددة وأحزاب سياسية متناحرة همّها الوحيد الوصول إلى سدة الحكم ونهب ما يمكن من ثروات البلاد.

ولم تنجح الشخصية المحورية للفيلم في تحقيق أحلامها، أو ربما لم يساعدها الواقع السياسي في حدوث ذلك، فيعيش “شفروت” على ذكرياته حين كان في عمر الشباب نادلاً في خمارة صاحبها – يقوم بدوره الممثل التونسي رياض النهدي- لا يتردد للحظة في أن يقبل الرشاوى ويكذب ويشتري الذمم، فالغاية عنده تبرر الوسيلة، وهو بعلاقاته مع الأمن يمثل انعكاسا لواقع السلطة الخاضعة للحزب الحاكم أكثر من التزامها بالقانون، والتي تمثل فيها “الرشوة” الحاكم الأكبر والمسيّر لشؤون البلاد ودواليب الحكم.

يحلم النادل بدكتاتورية البلوريتاريا ويأمل بثورة تقضي على الفساد والفاسدين، ويرى في انتفاضة الشعب وتمرده على السلطة مؤشراً على انتهاء الظلم وتحقق العدالة الاجتماعية، ويحاول دعوة أصدقائه وجيرانه إلى الثورة، فيجد نفسه سجينا، لكنه يخلّف وراءه طبقة مهمشة تحمل الأيديولوجيا ذاتها، وتتمكن بعد سنين طوال من الثورة في وجه الظلم والفساد.

ورغم أنه يسرد فترة حرجة من تاريخ اليهود، ثم يعود إليهم بعد عقود، إلا أن الحبيب المستيري لم ينسق وراء تجسيد صورة اليهودي الفار من بلاده بسهولة من أجل البقاء على قيد الحياة، وإنما يتمسك هذا اليهودي (لعب الدور الممثل فتحي العكاري) بتونس ويرفض الهجرة نحو إسرائيل وكذلك تدمير ممتلكات الدولة باسم الثورة والتمرد على الحاكم.

وتعكس شخصية اليهودي صورة عن الفرد العقلاني الواعي الذي يغلب الصالح العام على الخاص في حين كانت شخصية النادل صورة عن التونسي المتهوّر الذي سيطرت عليه الأيديولوجيا فصار لا يحتكم إلا إليها فيشرّع لها ويبرّر كل أفعاله وفقها.

ورغم أنه من الأعمال السينمائية غير التجارية، وهو التوجه الذي تدعمه أغلب المهرجانات السينمائية التونسية وكذلك وزارة الثقافة، إلا أن الأخيرة لم تدعم الفيلم، فأنجزه أصحابه بميزانية صغيرة جداً، واضطروا إلى التقشف في الديكور وأماكن التصوير. وانعكس التقشف وقلة الموارد المالية على كوادر التصوير التي كانت في مجملها في أماكن داخلية وبديكورات بسيطة.

وكما بدأ الفيلم بلقطة للبطل “شفروت” متأملاً تونس من على أحد الجسور، انتهى الفيلم بالمشهد نفسه ليفسح المجال أمام المشاهد كي يقف وقفة تأمل تجاه آخر خمسة عقود من تاريخ بلاده. ولا شكّ أنه سيلاحظ حينها أن لا فرق بين الماضي والحاضر، فالأزمة تتشابه، وتفرض على تونس ضياعا سياسيا واقتصاديا يصاحبها مع اختلاف الوجوه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى